الحلقة الثانية
تنوع العمل الرسالي ووحدة الهدف
مما يدل على وحدة الهدف وسلامـة القصـد لكـل إمام معصوم (عليهم السلام ) عدة أمور:-
أولاً : الأخبار الكثيرة الواصلة حد الاستفاضة المشار بها إلى الحسن والحسين (عليهما السلام ) أوضحها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) : ( الحسن والحسين إمامان إن قاما وإن قعدا ) 1 ، وهو واضح المعنى متشرعياً بأنهم على صفة الإمامة سواء تصديا لأمر خلافة المسلمين أم لم يتصديا .
ولكن بالإمكان تفسيره كما هو ليس ببعيد ، سواء قاما بالمقاومة والمواجهة القتالية لو اقتضت الظروف والحالة العامة ذلك أم قعدا لو لم تقتضِ ذلك ، وسواء انطبق القيام على الإمام الحسين (عليه السلام ) أو على الإمام الحسن (عليه السلام ) وكذا القعود .
غاية الأمر إن ملابسات وأحداث الإمام الحسن ( عليه السلام ) صيّرته إلى القعود ، وملابسات وظروف الإمام الحسين (عليه السلام ) صيّرته إلى القيام بالمعارضة والمناجزة العسكرية ، حتى لو حصل ما حصل مادام يصُب في رضا الله تعالى ونصرة دينه .
وقد ورد عنهم (عليهم السلام ) : ( رضـا الله رضانا أهل البيـت ) [1] فإذا ضممنا إلى ذلك أنهما معصومان (عليهما السلام ) وفعلهما حجة كما قولهما فمعنى ذلك إن فعل الإمام الحسن (عليه السلام ) فيه رضا الله وفعل الإمام الحسين (عليه السلام ) في رضاه .
ثانياً : حديث الثقلين المتفق عليه بين الفريقين ، حيث يقول ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ( إني تارك فيكم الثقلين . كتاب الله وعترتي أَهل بيتي ، لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض)[2] ، والقرآن لا يأتيه الباطل ، وهو تبيان لكل شيءٍ وأهل البيت (عليهم السلام ) في عرضه ، فلا يأتيهم الباطل وهم تبيان لكل شـيءٍ ، إذن هما على الحق وتبيان لكل شيءٍ بمقتضى المثلية مع القرآن .
ومن هنا فإن الاستفادة من طريق الإمام الحسن (عليه السلام ) والاستزادة من تجربته في مواجهة ردة الجاهلية تبيان وهداية لنـا ، ولا يحتمل التشكيك فيها وفي صحتها وإلا شكك في القرآن كما تضمنه الحديث المبارك ، فكم من داعية ومصلح وصاحب هدف في طول خط الإنسانية وتاريخها قد يواجه مثل ظروف الإمام الحسن (عليه السلام ) وحاجته إلى تجربة مثيلة خاضها إمام معصوم ، وفعله (عليه السلام ) كما هو مقرر على الحق وعلى الطريق المستقيم ، بل هو نفسه الطريق المستقيم ، يكون نافعاً ومفيداً للتجربة ومبرراً لفعله ، لأن فعل المعصوم حجة كما إن قوله كذلك .
ثالثاً : يمكن أن نتمسك لوحدة الهدف بقول الإمام الحسين (عليه السلام ) : مَن سمع واعيتنا1. إلى آخر كلامه الشريف ، وأقول ليس واعية الحسين (عليه السلام ) خاصة بل واعية الحق وهو الإسلام ، أيّاً كان ممثله وخصوصاً المعصومون عليهم السلام . فلا نكن ضيقي الأفق والنظرة بأن نجعل الكلام لواعية الحسين (عليه السلام ) خاصة مع إنه ليس كذلك . لأن الحسين لا يمثل نفسه بل هو ممثل الحق والإسلام بكل قيمه وأهدافه ، فكل ممثل للإسلام وكان داعياً ( له واعية ) مَن سمعها ولم ينصره أكبه الله تعالى على منخريه في النار ، هذه هي الكبرى ، والصغرى هي واعية الإمام الحسن (عليه السلام ) واضحة لا غبار عليها ولا لبس فيها فالنتيجة من سمع واعيته ولم ينصره ـ مع الأخذ بالإطلاق الزماني وعدم الاقتصار بخصوص زمانه (عليه السلام ) ـ أكبه الله تعالى على منخريه في النار .
فإن قلتَ : إن الكلام صدر من الإمام الحسين (عليه السلام ) ولم يصدر من الإمام الحسن (عليه السلام ) فكيف صح ما تقول ؟
قلتُ : إن كلامهم واحد . فكلام آخرهم كلام أولهم ، لأنهم من نور واحد . وفي ذلك وردت بعض الأخبار .
رابعاً : قوله تعالى] إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم [ 1 ، ومن أولى من المعصوم بنصرة الله التي تعني نصرة شريعته ودينه ، وهم أُمناء الرسالة والقيمون عليها بعد رحيل رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الذي مثّل مرحلة الحدوث للرسالـة ، وهم يمثلون مرحلة البقاء لها ، ولا بقاء لها من دون صيانة ورعاية ، ولا أفضل منهم (عليهم السلام ) برعايتها وصيانتها .
غاية ما هناك أن كيفية هذهِ الصيانة مختلفة وطريقة أدائها متعددة من جهة الظروف التي تعيشها الأمة الإسلامية ، ومن جهة ما يمثله أعداؤها . من الطغاة والمتكبرين الذين يريدون الخلافة ملكاً دنيوياً وإمبراطورية كسروية أو قيصرية لتعود الجاهلية بثوب جديد .
ومع إلقاء نـظـرة بسيطة نرى أن ما واجهه الإمام الحسن (عليه السلام ) أعتى وأشد وأدهى وأمكر مما واجهه الإمام الحسين عليه السلام لما يمتلكه معاوية من خبرة في شؤون السياسة والدولة حاول جاهداً تنميتها خلال عشرين سنة كان والياً فيها على الشام ، وقد أحكم سيطرته عليها إلى أن جعلها جزءً منقطعاً عن حدود الدولة الإسلامية والخلافة الراشدة ، فكان يمثل الحاكم المطلق فيها ، والمتصرف في شؤونها حتى إن الخليفة لم يناصفه مواردها المالية كما فعل مع غيره من الـولاة ، وهو يمثل لأهل الشام صاحب الفضل واليد ، لأن إسلامهم جاء من قبله فكانوا لا يرون لأنفسهم شأناً قباله إلاّ السمع والطاعة وعدم المناقشة أو الإحساس بالمكانة في قباله ، وقد مارس سياسةً خاصةً معهم أوصلتهم إلى طاعتهم العمياء له من دون نقد ومحاسبة عما يفعله في كونه مع الحق أو الباطل ، مع أنه كان يمثل عند البعض من الصحابة أنه من صحابة رســـول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) خصوصاً وقد رفع شعار المطالبة بدم الخليفة المقتول كما هو معروف تفاصيله التاريخية .
ومعنى إن معارضته أو مناجزته لا تخلو من اعتراض وامتعاض ممن لا يرون للإمام الحسن (عليه السلام ) ـ لقصور فيهم أو تقصير ـ ميزةً على معاوية ، وقد قال بعضُهـم مالنا ، سواء كان الأمرُ للحسن أو لمعاوية . إذن فالخصم المتمثل بمعاوية أقسى واشد مكراً ودهاءً من الخصم المتمثل بيزيد ( عليه اللعنة ) ، ومن هنا فمن غير المنطقي أن تتحدد وجهة النظر في مواجهة أعداء الإسلام وعبدة الشيطان بعد أن كانوا متفاوتين في القوة والسيطرة ، ولكن لا تخرج مقاومة المعصوم ودفاعه عن دين الإسلام عن كونه نصراً لله وتأييداً لدينه ، والمعصوم (عليه السلام) أعرف بتكليفه الخـاص . الذي نجهل حيثياته نحن.
شرعية وصحة موقف الامام الحسن عليه السلام
يمكن ملاحظة بعض الأمور التي يستكشف منها سلامة موقف الإمام الحسن (عليه السلام ) وهي :
أولاً : إن الأخبار الواردة عن جدهم رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) عنهما . مصدرة بالحسن لا بالحسين (عليهما السلام ) ، وفي هذا الأسلوب ما لا يخفى من تقديم واعتبار المتقدم ذكره ، كما يحدث ذلك اجتماعياً عندنا ، وفي مناسبات عديدة ، كإقامة الندوات والحفلات حيث يُقدم من هو أكثر أََهمية من غيره مبتدأً بكلامه أو خطابه ، وكذا عندما يقدم أحدنا على مجلس وفيه الكبراء والوجهاء فيبدأ بالسلام والتحية على الكبير ثم على غيـره .
لكن قد يقال إن التقديم لا لأفضلية الإمام الحسن (عليه السلام ) على الإمام الحسين ( عليه السلام ) وإنما لسبقه زماناً من حيث توليته لمنصب الإمامة ، وهذا صحيح ، لكن النافع إن الإمام الحسن (عليه السلام ) ليس أقل من الإمام الحسين (عليه السلام ) من حيث الأفضلية كما ربما يُدعَى ، فكلاهما من أصحاب الكساء ، وأبناء رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ، وابنا أمير المؤمنين (عليه السلام ) ، وابنا فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين (سلام الله عليها) ، فهما من هذه النواحي المادية والمعنوية سواء .
ثانياً : إنه لم يصدر اعتراض لتصرفات الإمام الحسن (عليه السلام ) من أخيه الحسين (عليه السلام ) ، كما ادعاه بعض من كتب عن الإمام (عليه السلام ) مستدلاً له بأخبار ضعيفة ساقطة سنداً مع إنها غير معقولة دلالةً لما يمثله موقع الإمامة والعصمة من حرصة تقتضي التسليم والانقياد ومَن أولى من الإمام الحسين ( عليه السلام ) ممثلاً لذلك ، وكما قيل أهل البيت أدرى بما فيـه .
وهذا الأمر يعطي تبريراً محكماً لتصرف الإمام الحسن ( عليه السلام ) من جهتين .
الجهة الأولى : من كونه معصوماً كما تقدم .
الجهة الثانية : عدم اعتراض المعصوم الآخر عليه . وهو أخوه الإمام الحسين ( عليه السلام ) .
ولا يقال إن الإمامة في هذا الطرف للإمام الحسن ( عليه السلام ) لا للإمام الحسين (عليه السلام ) ، ليكون سكوت الحسين u حجة.
فإنه يقال إن حجية كلامه لكونه معصـوماً ، وهذا يكفي لا لكونه إماماً ، إذ لا يعقل إمامته مع إمامة أخيه (عليه السلام ) على مناقشة ذكرها السيد الأستــاذ ( قده ) في الشذرات ، لا تخلو من مناقشة أعرضت عنها .
إذن قوة وصحة تصرف الإمام الحسن (عليه السلام ) لا يداخلها الشك . فإن داخلها فإنما هو لتدني مستوى الشاك ، أو لسوء سريرته وخبثه وعدم انصياعه للحق ونداء الفطرة وحكم العقل وسلامة البصر .
ثالثاً : من خلال النص التالي المنقول عن الإمام الحسين (عليه السلام) وهو أول نص أدلى بشأن معاوية ، عندما كتب إليه بنو جعدة يخبرونه بحسن رأي أَهل الكوفة فيه وحبهم لقدومه وتطلعهم إليه فكـتب (عليه السلام ) إليهم !
(( وإني لا أرجو أن يكون رأي أخي رحمه الله في الموادعة ، ورأيي في جهاد الظلمة رشداً وسداداً . فالصقوا بالأرض وأخفوا الشَخْص ، واكتموا الهوى واحترسوا من الظِنة مادام ابن هند حياً فإن يحدث به حدثاً وأنا حي يأتكم رأيي إن شاء الله )) .
الموادعة تعني المصالحة ، والشَخص كناية عن الاختفاء عن أعين السلطات الأموية لقسوتها . ومن هذا النص نؤكد على شرعية وصواب صلح الإمام الحسن (عليه السلام ) ، وبذلك يكون الحسين u أول مدافع عنه ينفي كل ما نُسب إليه من آراء مخالفة لأخيه الإمام الحسن (عليه السلام ) أثناء الصلح كما زعم العلائلي حيث نقل كلاماً غير مقبول ولا ينسجم مع خط أهل البيت (عليهم السلام ) ، إذ الإمام مطاع ولا يناقش مناقشة المعارض المخطئ لأنه يعلم ما يفعل كما ويؤكد الإمام الحسين (عليه السلام ) إن انطلاقة الثورة تكون بعد معاوية وعبّر عنه بابن هند لما يعرفه المسلمون من تاريخها ، وكانت وصايا الإمام الحسين (عليه السلام ) تؤكد على الصبر . وعدم التسرع لأن السلطة كانت لا تعرف الرحمة وقد عَرَفَ من تاريخها الكثير .
==============
1 كشف الغمة في معرفة الأئمة 2 / 159 .
[1] حياة الأئمة الاثنى عشر / 111 . ويلاحظ وجود مقدمة مطوية واضحة وهـي ( أنَّ الحسن والحسين ـ عليهما السلام ـ أكيداً من أهل البيت ( ع ) ) .
[2] الحاكم في مستدركه 3 / 148 . والذهبي في تلخيص المستدرك ، نقلاً عن المراجعات ص50 .
1 ورد عن الإمام الحسين ( عليه السلام ) : من سمع واعيتنا ولم ينصرنا اكبّه الله في النار . آمالي الصدق / 132 ، البحار 44 / 315 .
1 سورة محمد / 7 .
==================
يتبع
موفقين لكل خير