ثبات النبي (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم)، وصمود أبي طالب (عليه السلام)، واستقامة الهاشميين،
والأخبار التي كانت تنتشر عن معاناتهم، أحدثت ردود فعل معارضة للمقاطعة في أوساط قريش، وظهرت أصوات
ومواقف تدعوا لإعادة النظر في جدوى الحصار والمقاطعة على بني هاشم.
ونزل الوحي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) يخبره أن الإرضة (دودة بيضاء شبه النملة)
أكلت جميع ما في صحيفة المقاطعة المعلقة في الكعبة، عدا كلمة (باسمك اللهم). فأخبر النبي (صلى الله
عليه وآله وصحبه وسلم) عمه أبا طالب (عليه السلام). فقال أبو طالب: أربك أخبرك بهذا؟ قال (صلى الله
عليه وآله وصحبه وسلم): نعم.
فانطلق أبو طالب من ساعته مع عصبة من بني هاشم، باتجاه مجلس قريش، فرحبوا به ظانين أنه بصدد التفاوض
على الاستسلام، والتراجع عن موقفه. لكنه فاجأهم بقوله: إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني: أن الله تعالى
أخبره أنه بعث على صحيفتكم دابة الأرض، فلحست جميع ما فيها من قطيعة رحم، وظلم وجور، وترك اسم الله،
فإن كان حقاً فارجعوا عما أنتم عليه من الظلم والجور وقطيعة الرحم، وإن كان باطلاً دفعت محمداً
إليكم لتفعلوا به ما شئتم، فوافقوا على ذلك، وتناولوا الصحيفة من جوف الكعبة فوجدوا الأمر كما
أخبرهم.
وهكذا انتهى الحصار، وفشلت ضغوط قريش، وخرج النبي (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) وأبو طالب (عليه
السلام) والهاشميون برؤوس مرفوعة، ومعنويات عالية، رغم معاناتهم الشديدة القاسية.
المقاطعة في الحاضر:
ولا تزال المقاطعة الاقتصادية سلاحاً تستخدمه الدول والأمم في حالات الصراع والحروب، ومع الأثر
المتعاظم للدور الاقتصادي في العصر الحاضر، فإن هذا السلاح يصبح أكثر فعالية وخطورة.
وفي أواخر القرن الثامن عشر سنة 1765م استخدم الأمريكيون في ثورتهم على الاستعمار البريطاني سلاح
المقاطعة ضد البضائع البريطانية.
وأثناء الحرب العالمية الثانية وضعت كل من إنجلترا والولايات المتحدة قائمة سوداء، تشمل الشركات
والأفراد في الأقطار المحايدة، الذين يتاجرون مع العدو، ولا يسمح للشركات والأفراد المدرجين في
حرمان القائمة السوداء بشراء البضائع من الولايات المتحدة أو بريطانيا. وأدى ذلك إلى حرمان ألمانيا
واليابان وإيطاليا من الحصول على البضائع التي كان من الممكن أن تشتريها لهم الأقطار المحايدة.
وقد مارست أمريكا ولا تزال على إيران ألواناً من الحصار والمقاطعة الاقتصادية منذ احتلال السفارة
الأمريكية في طهران بعد انتصار الثورة الإسلامية، واستصدرت أمريكا وبريطانيا من مجلس الأمن إجراءات
عقوبات تشمل الحصار والمقاطعة على ليبيا عند أزمة لوكربي، ولايزال العراق يعيش تحت الحصار منذ غزوه
للكويت.
وتوجد الآن منظمات في داخل أمريكا تأسست من عام 1909م تروج للبضائع الأمريكية فيقولون:
(Buy union buy American) إذا أردت أن تكون حليفاً فاشتر المنتج الأمريكي، وترصد قائمة بالشركات
التي تنتج بضائع، أو تروج لبضائع غير أمريكية لمقاطعتها، وعندهم قائمتين : لا تشترِ، واشترِ (Don't
buy, Do buy )
ويستخدم اليهود سلاح المقاطعة بإتقان للضغط على مختلف الجهات لصالح مواقفهم، ولتنمية إنتاجهم
وصناعتهم.
وقبل فترة وجيزة قامت وزارة الصناعة والتجارة الإسرائيلية بحملة لتشجيع شراء الصناعات الإسرائيلية،
في مقابل شراء البضائع الأجنبية، وقال رئيس الحكومة أرييل شارون أثناء جلسة الحكومة لمناقشة
الموضوع: إنني لا أفهم لماذا تكون أقلام الرصاص الموجودة على مكتبي هنا ألمانية الصنع. [5]
ويضغط اليهود الأمريكيون في أمريكا على وسائل الإعلام بالمقاطعة لتكون أكثر انحيازاً لإسرائيل، ففي
هذه الأيام وعلى أثر نشر بعض الصحف الأمريكية لشيء من جرائم إسرائيل في مخيم جنين، وفي قمع انتفاضة
الشعب الفلسطيني، شنت المنظمات اليهودية والمجموعات المؤيدة لإسرائيل، حملة تحريض لمقاطعة تلك
الصحف، ففي لوس انجلس أوقف ألف شخص اشتراكاتهم في صحيفة ( لوس انجلس تايمز) احتجاجاً على مااعتبروه
تغطية غير دقيقة منحازة للجانب الفلسطيني. وفي نيويورك ناشد الكثير من أعضاء الجالية اليهودية
القراء بمقاطعة صحيفة ( نيويورك تايمز).
دلالات المقاطعة
في مواجهة العدوان الصهيوني البشع، ومع تصاعد جرائمه بحق مقدساتنا وشعبنا في فلسطين، فإن استخدام
سلاح المقاطعة الاقتصادية ضد مؤيدي هذا العدوان وحماته، هو من أول الواجبات، وأبسط الجهود التي لا
يصح التردد في القيام بها.
إن الواحد منا إذا تعرض لإهانة شخصية من قبل أحد الباعة أو التجار فإنه لا يفكر أبداً في العودة
إليه أو التعامل معه، وليس بحاجة إلى قرار من حكومة، أو فتوى من مرجع، حتى يقاطع بقالة أو متجراً
سبه أو شتمه صاحبها، بل يندفع لذلك بلا تردد احتراماً لنفسه، وحفاظاً على كرامته.
فكيف نتردد في مقاطعة المنتجات والبضائع الأمريكية،مع كل ما يوجهه لنا الأمريكيون من صفعات وضربات،
تستهدف وجودنا وكرامتنا وحقوقنا المشروعة؟
وإذا كان هناك نقاش في مدى حجم الضرر الذي نستطيع أن نلحقه بالاقتصاد الأمريكي، من خلال المقاطعة،
فإنه لا نقاش في أنه ينبغي لنا أن نمتلك إحساساً ومشاعر تتأثر بالعدوان والإساءة، وتنتج ردود فعل
تؤكد في النفس والواقع الخارجي احترامنا لكرامتنا ومصالحنا.
كما أن من حقنا أن نوصل للأمريكيين عبر المقاطعة لبضائعهم ومنتجاتهم، رسالة تحمل انزعاجنا وغضبنا،
من موقفهم الظالم المنحاز للعدوان الصهيوني.
ولا شك أن الأمريكيين يهتمون بمصالحهم الاقتصادية، و لا يستهينون بأي قدر من الخسارة، كما يفكرون في
تأكيد نفوذهم، وخدمة سمعة بلادهم، بدليل توجههم أخيراً لتشكيل لجان، ووضع خطط سياسية وإعلامية،
لتحسين صورة أمريكا في العالم الإسلامي.
فإذا ما تضامن المسلمون في مختلف أنحاء العالم على مقاطعة المنتجات الأمريكية، فلابد وأن يكون لذلك
تأثير على دوائر صنع القرار الأمريكي.
ومن خلال المقاطعة ينبغي ترشيد الاستهلاك في مجتمعاتنا، وتشجيع الإنتاج المحلي والعربي والإسلامي،
واختيار البدائل عن المنتجات الأمريكية، من الدول المتعاطفة مع قضايانا، أو المحايدة على الأقل. أما
السلع والمنتجات التي لا بديل لها، أو نكون مضطرين إليها، فإن للحاجة والاضطرار أحكامها، يقول تعالى
{فاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
ويجب أن تتطلع أمتنا إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي، واللحاق بركب التقدم الصناعي والتكنلوجي، وقد قال
أمير المؤمنين علي (عليه السلام) « احتج إلى من شئت تكن أسيره، واستغن عمن شئت تكن نظيره، وأحسن إلى
من شئت تكن أميره»
اللهم أصلح أمورنا، وأعنا على أنفسنا، وانصرنا على من ظلمنا يا رب العالمين.
----- الهوامش -----
[1] ابن هشام: عبد الملك/ السيرة النبوية ج2 ص30 دار إحياء التراث العربي- بيروت 1994م.
[2] ابن عبد الوهاب: الشيخ محمد/ مختصر سيرة الرسول (صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم) ص65/ وزارة
الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد- السعودية 1418هـ.
[3] ابن هشام: عبد الملك/ السيرة النبوية ج1 ص309 دار إحياء التراث العربي 1415هـ
[4] السبحاني: الشيخ جعفر/ سيرة سيد المرسلين ج1 ص507 الطبعة الأولى 1992م دار البيان العربي-
بيروت.
[5] مجلة المجلة / عدد 1160ص10 تاريخ 11/ 5 / 2002م