[align=center]اللهم صلي على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين[/align]
في وادٍ ضيّق طويل وعلى مقربة من بئر زمزم، نشأت مكّة قريةً صغيرة لتصبح بعد عقود من السنين « أمّ القرى ». ولقد ظلت مكّة بعيدة عن عبث الفاتحين، قروناً مديدة تتألّق مجداً بين مدن الحجاز وقُراه، ففي أرضها: البيت العتيق.. البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل.
حتّى إذا أطلّ عام 570 من الميلاد، فكّر الأحباش ـ الذين احتلّوا اليمن في القرن السادس الميلادي ـ في السيطرة على الطريق البرّي للتجارة، دعماً لموقف حلفائهم الرومان، فيما اتّجه الفُرس إلى تحريض يهود اليمن والنصارى المعارضين، وتعزيز وجوداتهم، واستيقظ الحجاز على دويّ الصراع بين الامبراطوريتين.
وهكذا وجدت مكّة نفسها في مهبّ الإعصار القادم من اليمن، فقد زحفت جيوش الأحباش يتقدمها فيل مدرّب من أجل تدمير بيت الله؛ بعد أن عجز « القليس »(1) عن اجتذاب أنظار العرب، فظلّت قوافلهم تهوي في بطون الأودية في مواسم الحج.
كان عبدالمطّلب قد تخطّى السبعين آنذاك؛ شيخ وضيء القسمات في عينيه انعكاسات من بريق النبوّات الغابرة، مذ وطئت قدم إبراهيم الخليل ترابَ « وادٍ غيرِ ذي زرع ».
واعتصم المكيّون ـ الذين تهيّبوا ضخامة الغزو ـ برؤوس الجبال ينظرون من بعيد إلى الكعبة مهوى الأفئدة، ويردّدون كلمات قالها عبدالمطّلب.
ـ للبيت ربٌّ يَحميه.
وقف أبرهة قبالة الكعبة ينظر باستعلاء إلى جنوده وهم يتقدّمون لتدمير الكعبة وسحقِ كرامة الإنسان العربي الذي ظلّ محافظاً على ولائه لإبراهيم. وفي تلك اللحظات المثيرة ظهرت في الأفق سحابة دَكناء سُرعانَ ما أسفرت عن أسراب كثيفة من طيور « أبابِيل » تحمل بمناقيرها حجارةً من سِجّيل.
وقد يتصوّر المرء مدى الدهشة والرعب الذي غمر الجنود، وهم يتعرّضون لقصف جهنميّ رهيب، أحال قوّتهم إلى ضعف، ومرّغ كبرياءهم بالوحل.
ورأى أبرهة غضب السماء يبدّد أحلامه في قلب الحجاز، فامتلأت نفسه رعباً، كان يتفادى الحجارة المشتعلة دون جدوى، وولّى الجيش مذعوراً لا يلوي على شيء.
وشهدت مكّة والطريق المؤدية إلى اليمن تساقطَ جثث الأحباش كعصفٍ مأكول، ومات أبرهة على بوّابة صنعاء.
وفي ذلك العام ذاعت شهرة عبدالمطّلب حفيد إبراهيم وراعي البيت العتيق.
* * *
وقد ولد الربيع
ورأى عبدالمطّلب أن يزوّج ابنه عبدالله آخر الأبناء بعد أن بلغ من العمر أربعة وعشرين عاماً.
واقترن الشاب الذي افتداه أبوه من الإبل(2) بفتاة اسمها « آمنة » كريمة المَحتِد، فأبوها سيّد بني زهرة.
وأقام العَروسان عند أهل العروس استجابةً لعادة عربيّة حينما يتمّ الزواج في بيت العروس.
ولمّا مضت ثلاثة أيام انتقلت الأسرة الصغيرة إلى منازل بني عبدالمطّلب.
وعندما انتهت الاستعدادات في رحلة قريش في الصيف غادر عبدالله مكّة نحو الشام، إلى مدينة غزّة.
وقد استغرقت الرحلة شهوراً ليعود بعدها إلى أرض الحجاز. ويشاء القدر أن يتوقّف عند أخواله في مدينة يثرب، ولم يكن يدري أن هذه المحطّة ستغدو مثواه الأخير.
وفُجِعت العروس بوفاة زوجها وكانت حاملاً، كما فُجع أبوه عبدالمطّلب ومكّة كلها بهذا النبأ.
وتأثر عبدالمطّلب لرحيل ابنه السريع، وهو الذي افتداه فداء لم تسمع به العرب من قبل.
لم يترك عبدالله سوى خمسة من الإبل وقطيعاً صغيراً من الغنم وجارية هي أمّ أيمَن.
وتمرّ الشهور وتحين ساعة المخاص ليولد حفيد عبدالمطّلب؛ كان سيّد مكّة في رحاب الكعبة عندما بُشِّر بميلاد الحفيد. وفي تلك اللحظة تفجرت ينابيع الحبّ في قلب الجدّ.
احتضن الشيخ حفيده وهتف:
ـ سمّيتُه محمداً.
وانتقل الاسم العجيب في منازل مكّة، اسم جميل حلو، يشبه نغمة حالمة.. كيف ومض هذا الاسم في ذهن سيّد مكّة، ويتساءل بعضهم:
ـ وأسماء الآباء.. والأجداد.. لماذا محمّد ؟!
تمتم الشيخ:
ـ ليكون محموداً في السماء وفي الأرض.
وهكذا اقترن ميلاد محمّد بعام الفيل.. لقد هُزمت عاصفة الشتاء ووُلد الربيع في موسم الربيع(3).
* * *
القاعدة الجغرافية للتاريخ
إذا كان للبيئة تأثيرها في طبيعة الإنسان، فلقد أكسبت بيئة الحجاز، بتضاريسها ومناخها، وبمعالمها الجغرافية الإنسانَ العربي صفات عديدة.
فهو خفيف في وزنه، نحيف في بدنه، صبور في مواجهة المشاقّ قنوع في طعامه، في فكره سرعة وبديهة، وفطنة وذكاء وخيال مشتعل، وكبرياء وعزّة تتألق في عينيه السوداوَين، وشاعريّة مُرهفة، جعلته شغوفاً بالحِكمة والأمثال، ولم تكن الكاميرا ـ التي ظهرت قبل أقل من قرنين ـ موجودة آنذاك لتنقل لنا صورة عن هذا الإنسان العظيم.
ولكن التاريخ الذي استيقظ مأخوذاً في سنة 610 م قدّم لنا ملامح عن محمّد وقد بلغ الذروة في نموّه الجسدي والفكري.
لم يكن فاحش الطول، كان رَبعة وقد « جُعل الخير كلّه في الربعة » أمّا بَشَرته فكان أزهَرَ لونُها، أي بيضاء ناصعة، لا تشوبها صُفرة ولا حمرة.
رَجِلُ الشَّعر لا مسترسل ولا جَعد، يشبه تموّجات الصحراء، وكان يبلغ شحمةَ أُذنيه، وقد بدت سوالفه متلألئة.
واسع الجبين، بين حاجبَيه فاصل لطيف، وعيناه نجلاوان، فإذا ابتسم أفترّ عن لآلئ منضودة.
فإذا مشى بدا كزورق ينساب في بحيرة هادئة، وكان يقول:
ـ أنا اشبه الناس بآدم، وكان أبي إبراهيم أشبه الناس بي.
* * *
الصبي العظيم
نشأ محمّد صلّى الله عليه وآله في أحضان جدّه عبدالمطلب، فكان شغله الشاغل، لكأنّ الصبي ورث الحب العظيم عن أبيه الراحل.
ورأى سيّد مكّة أن ينشأ حفيده في الصحراء والبوادي، ولقد كانت نساء البادية يقصدن أمّ القرى في السنوات العجاف يرضعن أولاد الأشراف لِقاء أجر معيّن.
وكانت المرضعات يقصدن البيوت الثريّة طمعاً في العطاء، فكان اليتيم آخر ما يفكرن فيه.
وجاءت حليمة تبحث عن وليد، فإذا هي ترى محمداً، ولعلّها إرادة السماء أن يتفجّر نبع الحب في قلب « السعديّة » لتحتضن الوليد اليتيم، وتنطلق به إلى البادية.
ومرّ عامان تدفّق فيهما الخير في تلك البقعة من دُنيا الله، فإذا ذلك الصبي يُمن وبَرَكة.
وتشعر حليمة بالحزن، فلقد آن للصبيّ أن يعود إلى أمّه، وما يزال ينبوع الحب يتدفّق في قلبها.
وصادف أن اجتاح الوباء مكّة، فخشي عبدالمطّلب على حفيده عاصفات الدهر، واستجابت آمنة لرغبة الجدّ، وهي ترى عينَي حليمة تبرقان فرحةً بمحمّد.
ويعود الصبيّ إلى البادية تملأ عينيه الصحارى، وتبهره سماؤها الزاخرة بالنجوم.
وتشعر حليمة بأنّ الصبي قد أضحى جزءاً من كيانها، حتّى جعلها تخشى عليه عوادي الزمن.
ويسأل الصبي أمّه بنت الصحراء عن إخوته في الرضاعة:
أين الشيماء وأنيسة، وعبدالله ؟
فتقول له:
ـ فدتك روحي، إنّهم يرعون غنمنا.
وعندما رأى في قلبه رغبة أن يذهب معهم، فينطلق في الصحراء مع إخوته؛ رجّلت شعره وألبسته ثوباً جديداً، ولم تنس أن تضع في جيده قلادة.
وتساءل الصبي عن سرّ القلادة، فقالت:
ـ إنّها تحميك من الشرور.
ويخلع محمّد القلادة قائلاً:
ـ هناك يا أمي مَن يرعاني ويحميني من الشرور.
وارتسمت علامة استفهام في عينَي مَن وهبته الدفء واللبن، فيقول:
ـ الذي خلقني يحميني ويرعاني.
وتقف الأمّ مشدوهة أمام حِكمة هذا الصبيّ المكّيّ.
وينطلق محمّد يملأ رئتَيه بنسمات الصحارى مسروراً بأخيه وأختَيه، في صحراء لا تكاد تنتهي.
* * *
وترحل الأمّ
إنّ القدر لا يكفّ عن رمي السهام، ولقد شاء أن يختطف هذه المرّة آمنة كما فعل ذلك بعبدالله؛ فلم يكد الصبي يبلغ من عمره ست سنين حتّى وجد أمّه في « الأبواء »(4) تنطفئ كما تنطفئ الشموع وهي لم تكد تبلغ الثلاثين بعد.
ويرى سيّد مكّة حفيده وحيداً قد فقد حنان الاُمومة كما فقد حنان الاُبوة من قبل، فيتضاعف حبّه له حتّى ليكاد يملأ كلّ كيانه.
ومرّ عامان آخران عاش خلالهما الصبيّ في ظلالٍ وارِفة يغمره الحب وترعاه كفّ بيضاء نديّة، ولقد كان سيّد مكّة وراعي بيت إبراهيم يرى في حفيده مجداً وأيّ مجد، فطالما أصغى إلى بشارات الرُّهبان وكهنة ذلك الزمان بأنّ نبيّاً قد أطلّ زمانُه، فينظر إلى محمّد، فإذا هو الروح التي تنطوي في أهابها جذوةُ النبوّات.
وعندما بلغ محمّد الثامنة أغمض عبدالمطلب عينيه بعد أن اطمأن إلى مصير حفيده العظيم، وكانت آخر كلماته وهو يُوصي قبيلته قائلاً: لقد خلّفتُ لكم الشرف العظيم.
انتخب سيّد مكّة من بين أبنائه أبا طالب، وكان شقيق عبدالله، ولقد كان عبدمناف يحبّ أخاه الذي سافر إلى الشام ولم يَعُد، فانتقل حبّه إلى ذكراه الخالدة منه: ذلك الصبي الدافئ الذي تعلّم من قسوة الزمان الصمت والصبر والتأمّل، كما تعلّم منه الأدب.
فإذا الحكمة تشعّ من عينَيه، والجمال الحقيقي يتألّق في جبينه.
* * *
شيخ البطحاء
وبالرغم من أنّ الثراء يصنع بسحره الزعامات، في ذلك الزمان وربّما في كلُّ زمان ومكان، إلاّ أنّ أبا طالب كان استثناءً لقاعدة اعتادها الناس.
فلقد ورث أبو طالب زعامة مكّة بمجده الأخلاقيّ وبروحه الكبيرة، حتّى قال مؤسس البلاغة في دنيا العرب: « إنّ أبي ساد الناس فقيراً، وما ساد فقيرٌ قبله ».
* * *
في كَنَف فاطمة
وفي منزل أبي طالب يجد الصبيّ اليتيم نبعاً يتدفّق حناناً ومحبّة، فلقد وجد فاطمة بنت أسد أُمّاً تمكنت أن تُبدّد في قلب الصبيّ كلّ مشاعر اليُتْم، فإذا به في منزل جعلت منه فاطمة عشّاً دافئاً في زمن الزمهرير.
ولقد بلغ من رعايتها له أن كانت تحرم أولادها من القُوت في أيّام القحط وتُطعمه.
وبلغ من تقديره لها وحبّه ايّاها أنّها لما ماتت، انفجر باكياً وهو يتمتم:
ـ اليوم ماتت أُمّي.
ثمّ كفّنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع فيه، حتّى إذا رأى الدهشة ترتسم على وجوه أصحابه، قال:
ـ كانت أُمّي؛ تُجيع أولادَها وتُطعمني، وتُشعثهم وتدهنني، وما أحسستُ باليُتم منذ لجأتُ إليها.
* * *
حِلف أخلاقيّ
تخطّى محمّد العشرين من عمره عندما نشبت حرب « الفِجار »(5)، فاشترك مع عمّه أبي طالب في صدّ العدوان عن « كنانة ».
قال له الكنانيّون لما رأوا النصر في جبهتهم:
ـ يابن مُطعم الطير وساقي الحجيج، لا تَغِب عنّا، فإنا نرى بحضورك الغلبة والظفر.
فقال محمّد:
ـ إذا اجتنبتم الظلم والعدوان فإنّي لا أغيب عنكم.
وعاهدوه على ذلك.
وأصبح محمّد شخصيّة لها ثِقلها في المجتمع المكّيّ، فلقد كان سيّداً وحصوراً.
وكانت مكّة مدينة الأقوياء، وكان الأقوياء فيها هم الأثرياء، والثروة في بعض الأحيان ـ بل في أغلبها ـ شيطان يُغوي صاحبها ويفسده.
وشهدت دارُ عبدالله بن جدعان تحالفاً أخلاقيّاً من أجل منع العدوان على الوافدين إلى مكّة في مواسم الحج.
وكان محمد عضواً في ذلك الحلف الذي أنقذ « القتول »(6) من فضيحة الاغتصاب والعار.
* * *
الجبل والسماء
لقد اتّسم محمدٌ بالصمت، والصمت محراب التأمّل، يغوص فيه المرء إلى الأعماق البعيدة، أو يُحلِّق في السماء بأجنحة من النور.
وعندما يُصغي المرء، عندما يتعلّم لُغة الصمت، يسمع في عوالمه نداءات عجيبة.. نداءات تعجز الأُذن الآدمية عن سَبرها؛ فإذا الأشجار تتحدّث، وصخور الجبال، وإذا للأشياء لُغَتُها.
وكانت الحياة في مكّة صاخبة طافحة بالضجيج؛ من أجل هذا يمّم محمّد وجهه شَطرَ الجبل؛ فكان حِراء على ميعاد مع هذا الإنسان.
وأصغى محمّد إلى نداء الجبل؛ أن هَلُمَّ إلى الأعالي.. إلى القِمم؛ فالإنسان يرى العالم بوضوح أكثر من فوق جبل.
ولم يكن حراء جاراً قريباً لمكّة، بل يبعد عنها ثمانية أميال عربية(7)، وكان محمّد يطوي تلك المسافات باتجاه الشمال ليأوي إلى غار في السفوح لا يكاد يتّسع إلاّ لثلاثة أشخاص.
وفي ذلك الغار ومن على سفوح حراء، كان محمّد يتأمل الأرض والسماء.. يتأمل عالمه الكبير الذي يحيط به ويغوص في عالمه الاكبر المودع في أعماق نفسه.
وربما في غمرة الصمت والليل؛ سطع سِرّ الوجود بكلّ غموضه وشفّافيّته، ولم يكن هناك من الأوهام والأباطيل ما يحجب ذلك عنه، فاكتشف أجوبة طالما حيّرت الإنسان مند القِدم وإلى أن يقضي الله أمراً كان مَفعولاً.
وكانت الصحراء باتّساعها وترامي أطرافها، والجبال بشموخها وصمتها، والنجوم في أغوارها التي لا يَسبِرها أحد.. عَوناً له في اكتشاف الحقيقة، حقيقة الأشياء وجَوهرها.
* * *
يومَ اتّصلت السماء بالأرض
هل كان الجوّ صحواً، فالشمس تغمر الأشياء بالدفء والنور ؟ هل كان غائماً فبدت السُّحُب في زُرقة السماء سُفُناً مُبحِرة ؟ أم تراكمت فيها جبال، وبحيرات وتِلال وخلجان؟
هل اشتعلت البُروق، ودوّت الرعود ذلك اليوم، هل كان محمّد في أحضان الغار أم على سفح الجبل بين صخور حراء ؟!
لا يعلم المرء، ما حصل في تلك اللحظات المثيرة.. يوم هبط الملاك يحمل كلمات السماء.
ربّما تكهرب الفضاء غُلالة شفّافة من نور عجيب تغمر المكان.
نور لا ينتمي إلى ضوء الشمس، نور يشبه ما يسطع في النفوس ويُضيء القلوب.
غمر الصمتُ الأشياء.. تلاشت الأصوات.. انسحبت الأشياء إلى مَكنوناتها، ولم يعد محمّد يسمع شيئاً.. سوى كلمات.. كلمات مزلزلة تنفذ في أعماقه.. نفوذَ الشعاع في البحيرة الرائقة:
ـ « اقْرَأْ.. إقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.. خَلَقَ الإنْسَانَ مِن عَلَق.. إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم.. الّذي عَلَّم بالقَلَمِ.. عَلَّمَ الإنسانَ مَا لم يَعْلَم ».
صوت سماويّ يكاد يستوعب الدنيا بأسرها...
ـ يا محمّد! أنت رسولُ الله وأنا جبريل.
أمر عجيب! ماذا حدث ؟ ما هذا الدويّ الذي تردّده الكائنات ؟
لكأنّ صوت المَلاك قد فجّر في مكنونها الأسرار كما تنفجر الصخور عن ينابيع الحياة في لحظة تماسٍّ مع عالم بعيد... عالم لا ينتمي إلى الطبيعة في تكوينه وعناصره.
الأشواك وذرّات الرمال، والشجيرات المتناثرة هنا وهناك، والصخور التي تبدو صمّاء تردّد بصوت له دويّ:
ـ يا محمّد! أنت رسول الله.
مرّت لحظات مشحونة بروح سماويّة.. سمع فيها آخرُ الأنبياء في التاريخ حديثَ الكائنات.. إنّها لحظات الولوج في عالم الملكوت.
انطوت اللحظات لتعود الأشياء إلى سابق عهدها منذ آلاف السنين، وانطوت لحظة الاتّصال بين رسولٍ مَلاك وإنسان... رسول السماء، ورسول الأرض.
انحسرت تلك الشحنات التي غمرت المكان في لحظة اتّصال لايُطيقها إلاّ قلب نبيّ.
لم يبقَ في كيان محمّد سوى كلمات لا تنتمي إلى ابداع بشريّ، كلمات قادمة من وراء الأفلاك... كلمات يلتهب لها الجسد الآدمي.
* * *
العودة
ويعود محمّد إلى مكّة، ينوء بحمل الرسالات جسده الملتهب ينتفض، حتّى إذا التقى خديجة هتف:
ـ زَمِّلُوني... زَمِّلوني..
ورأت خديجة جبينَ زوجها العائد من الجبل مُضيئاً قد التمعت فيه حبّات العرق كقطرات الندى، مبهوراً بلحظة الاتّصال.. الاتّصال بين عالمَين.. عالم الطبيعة، وعالم ما وراء المحسوسات.. أو الشهادة والغيب.
قالت خديجة مأخوذةً بما سَمِعتْ:
ـ أبشِر يابنَ العمّ.. إنّي أرجو أن تكون نبياً.
وأوى محمّد إلى فراش دافئ، فيما انطلقت خديجة التي هزّتها المفاجأة إلى « وَرَقَة بن نوفل »(8).
هتف « ورقة »:
ـ قُدّوس قُدّوس.. لقد جاءه الناموسُ الأكبر الذي جاء موسى بنَ عِمران.
* * *
الإيمان
آمنت خديجة، فكانت أوّل أمرأة تعتنق رسالة السماء، لقد عاشت خديجة مع زوجها خمس عشرة سنة، عرفت روحه العظيمة التي تكاد تسع الدنيا، وعرفتْ أخلاقه الكريمة التي تسمو به على عالم الملائكة؛ لهذا آمنت به وشهدت أنّه رسول من الله إلى الناس كافّة.
إنّ للمرأة في قلب زوجها مكاناً، جزءاً من الروح لا يعرف الانفصال. مِن أجل هذا كانت أوّل انسان يبشّره الرسول بنبأ السماء.
وجاء عليّ، ذلك الفتى الذي لا يعرف في الدنيا سوى ابن عمّه محمّد.
ومحمّد لم يكن لعليّ ابن عمّ ولا حتّى أخ فحَسْب، بل كان له أباً ومعلّماً، أرأيتَ كيف يتّبع الفصيلُ اُمَّه، يشعر بالذُّعر إذا لم يكن قُربها، كذاك عليّ كان يتبع مُعلّمه في الحياة.
طالما انطلق معه إلى حراء في السنين الخوالي، يتعلّم من حركاته وسَكَناته ومن مَنطِقه وصمته دروساً وأيَّ دروس!
يقول مؤسس البلاغة في دنيا العرب:
« ولقد كنتُ أتّبعه اتّباعَ الفَصيل أَثَرَ أُمّه، يَرفَعُ لي في كلّ يومٍ من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يُجاور في كلّ سَنة بحِراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذ في الإسلام غيرَ رسول الله وخديجةَ وأنا ثالثُهما، أرى نورَ الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النُّبوّة. ولقد سمعت رَنّة الشيطان حين نزل الوحيُ عليه صلّى الله عليه وآله، فقلتُ: يا رسول الله، ما هذه الرَّنّة ؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته، إنّك تسمعُ ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لستَ بنبيّ ».
وقد قُدِّر لهذا الفتى أن يُواكب من تاريخ الإسلام أكثرَ الفصول إثارةً. حتّى أصبحَ رَمزاً من رُموزه الخالدة.
وتمرّ سبع سنين ليس على وجه الأرض سوى ثلاثة نفر يعبدون الله على دين الإسلام، دين إبراهيم.
* * *
فأس إبراهيم
إنّ للكلمة أحياناً فِعل الخوارق، مثلما تنفجر الصخور عن ينابيع الحياة، مثلما تنفجر الأرضُ الهامدة عن براكين غضب؛ يكون للكلمة شأن؛ ربّما تكون سيفاً بتّاراً، نهراً دفّاقاً، أجراساً ونواقيس، فأساً تحطّم وجوه الآلهة المزّيفة.
وهكذا قال محمّد صلّى الله عليه وآله: لا إله إلا الله.
وانخلعت قلوبُ الذين كَفروا، فمئات الآلهة في خطر، لقد جاء محمّد بدِين جديد.. إنّه يُسفِّه الآباء والأجداد.
إنّه خطر على آلهة قريش، وآلهة قريش عِبادة وتِجارة. وكان على أبي جهل، وأبي سفيان، وأُميّة بن خلف أن يتحرّكوا ما دامت مئات الآلهة المُحدِقة بالكعبة جامدةً لا تتحرك، لا تكفّ عن النظر ببَلاهةٍ إلى ما حولها ومَن حولها.
* * *
الشمس والقمر
كانت الشمس تتألقّ في الاُفق تغمر الكعبة بالنور، وقافلة قادمة من أرض اليمن تنحدر من التلال القريبة، وعَبيد منهمكون بإنجاز أعمال لأسيادهم؛ لهم بَشَرات مختلفة؛ هذا إفريقيّ وجهه يشبه لؤلؤة سوداء، وذاك قادم من أرض الروم، وذلك عربيّ الملامح.
لقد وُلدوا أحراراً ثمّ عصف بهم القَدَر.
كلّ شيءٍ بدا جامداً في مكانه جُمودَ الآلهة المحيطة بالكعبة، كلّ شيء كان ساكناً سكونَ المياه الآسنة في المستنقعات.
شيء واحد بدا يتحرّك، تحرّك النسغ في الأشجار يوم يطلّ الربيع.. قطرات مطر تتساقط فوق المياه الراكدة، فتُحيل السُّكونَ إلى دوائر متموّجة.
نسمة هواء تملأ الصدور ببشائر الحرّية.
نهض سادة قُريش وأثرياؤها، نهضوا غاضبين، فمحمد يهدد أمجادهم، آلهتَهم وكلَّ امتيازاتهم بالخطر.
بدا وجه أبي جهل مسودّاً من الحقد، والقلق يغمر وجه أبي سفيان، عندما دخل وفد قريش منزل أبي طالب.
كان المنزل على بساطته يمثّل قلعة المقاومة التي لجأ إليها محمّد صلّى الله عليه وآله.
العيون تُبرق حقداً ، وقد أحدق الرجال بأبي طالب؛ هَيْمَن صمتٌ مهيب. كان أبو طالب ينظر إليهم بودّ، ليدمّر عاصفة الحقد.
قال أبو جهل:
ـ لن نصبر على شتم آبائنا وعيب آلهتنا، فقل لابن أخيك لِيَكُفّ عنّا أو ننازله وايّاك حتّى يهلك أحد الفريقَين.
كان الوضع متأزّماً يُنذر بوقوع حرب أهلية لا تُبقي ولا تَذَر، وسوف تشتعل الحرائق، وتتحول الكعبة، إلى مسرح رهيب للقتال.
هكذا فكّر أبو طالب، فأراد أن يخفّف من توتّر الوضع.
دخل على النبيّ وقال:
ـ يابن أخي! أبقِ علَيّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أُطيق..
امتلأت عينا الرسول بالدُّموع.. سوف يُغادر هذه القلعة ليُقاتل وحدَه الذين كفروا، إنّهم لا ايمان لهم.
بكى من أجل عمّه، لقد شاء الله أن يحارب هذا الرجلُ في شيخوخته.. أن يُدافع عن رسالة السماء.. أن يقف بوجه شياطين الأرض:
قال رسول السماء:
ـ يا عمّاه! واللهِ لو وَضَعوا الشمسَ في يَميني، والقَمَرَ في شمالي على أن أتركَ هذا الأمر ما تركتُه أو أَهلِك دونه.
نهض النبيّ ليُغادر قلعةً عتيدة بدّدت عنه مشاعر اليُتم يومَ كان صغيراً، ومنحته السلام في زمن الخوف.
هتف الشيخ بابن أخيه:
ـ أُدنُ مني.
وطبع أبو طالب قُبلة دافئة على جبينٍ أزهر أضاءته السماء، وقال:
ـ اذهبْ يا بنَ أخي وقُل ما تشاء.. والله لا أُسْلِمُك لشيء أبداً..
ما تزال راية المقاومة تخفق فوق القلعة، وما يزال شيخ البطحاء قويّاً مهاباً لن يُزلزله عن موقفه أحد.
* * *
في رحاب البيت العتيق
الكعبة تنشر ظلالها الوارفة في المكان وقد بدت ذُرى التلال تتوقّد حُمرة في شمس الصباح، كان رسول الله جالساً وحدَه غارقاً في تأمّلاته، يفكّر، قد صنع من الصمت محراباً له يقيه شُرور العالم.
وكانت ثُلّة من زعامات قريش جالسين؛ يتصفحون وجوه الآلهة، التي بدت ذلك الصباح كائناتٍ خرافيّة تُحدّق ببلاهة.
قال عُتبة بن ربيعة وقد رأى محمّداً وحده:
ـ يا معشر قريش! ألا أقوم لمحمّد وأعرض عليه أموراً لعلّه يقبل بعضها ويكفّ عنّا.
هزّ الجالسون رؤوسهم بحماس:
ـ نعم يا أبا الوليد.
نهض عتبة وتقدّم نحو رسول السماء، جلس عنده بعد أن حيّاه تحية الصباح، وأقبل عليه يحدّثه بودّ:
ـ يابن أخي، إن كنتَ تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك مِن أموالنا حتّى تكونَ أكثرنا مالاً.
وإن كنتَ تريد شَرَفاً، سوّدناك علينا حتْى لا نقطع أمراً دونك. وإن كنت تريد مُلكاً، ملّكناك علينا.
غادر النبيّ محراب الصمت وقال:
ـ أفرِغتَ يا ابا الوليد ؟
ـ نعم يابن أخي.
ـ إسمع مني:
بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم
« حم. تنزيلٌ من الرحمنِ الرحيم. كِتابٌ فُصِّلَت آياتُه قُرْآناً عَرَبيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمون. بَشيراً ونَذيراً فأعْرَضَ أكثَرُهُم فهم لا يَسمَعُون. وقَالوا قُلوبُنا في أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُوننا إلَيه وفي آذاننا وَقْرٌ ومِن بَيننا وبَينكَ حِجابٌ فاعْمَلْ...».
ما بال عتبة تغشى عينيه طُيوفٌ تعبر فيها الغيوم ! ما باله يبدو سَكرانَ لكأنّه يطير في عوالم بعيدة ! هل لهذه الكلمات التي تنساب كنهرٍ هادئ كلّ هذا السحر ؟!
الكلمات تتدفّق كنبع يتفجّر بالحياة:
ـ « فإن أَعَرضُوا فقُلْ أنذَرتُكُم صاعِقَةً مِثلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمود ».
دوّت الصواعق في أُذنَي عتبة، تجسّدت له مشاهد من قبائلَ غابرة عصفت بها الريح من كلّ مكان.
ـ « فأَرسَلْنا عَلَيْهم رِيحاً صَرْصَراً في أيّامٍ نَحِسات لنُذيقَهم عذابَ الخِزي في الحياةِ الدُّنيا... ».
ـ « وأمّا ثَموَد فهَدَيْناهم فاستَحَبُّوا العَمَى على الهُدى فأَخَذَتْهُم صاعقةُ عَذابِ الهُون... ».
اشتعلت الصواعق، ودوّت الرعود.. وأعقب ذلك يومٌ تُحشر فيه النفوس الآدميّة لترى جزاء أعمالها...
ما يزال عتبة مبهوراً مأخوذاً برَوعة البيان، بانسياب الكلمات، بدويّ المشاهد، انبعث في أعماقه نداء.. إنّه كلمات السماء، كلمات لا يمكن أن تكون من صنع بشر، كلمات رائعة أخّاذة، فيها سحر ورَوعة، فيها حلاوة وطَلاوة.
رسول الله يرسم المشاهد الخلاّبة:
ـ « إنَّ الّذين قالُوا رَبُّنا اللهُ ثُمّ استقاموا تَتنزَّلُ عَلَيهِمُ الملائِكَةُ أَلاّ تَخافوا ولا تَحزَنوا وأَبْشِروا بالجَنّةِ التي كُنتم تُوعَدُون ».
انبثقت جنّة من نخيل وأعناب، وارفة الظلال، فيها ما تشتهي الأنفس وتَلذّد الأعين..
ـ « ومِن آياتِهِ الليلُ والنَّهارُ.. والشَمَسْ والقَمَرُ، لا تَسجُدوا للشمسِ ولا للقمر واسجُدوا للهِ الذي خَلَقَهُنّ إنْ كُنتُم ايّاه تَعبُدُون ».
وهوى النبيّ ساجداً لله الذي خلق الشمس والقمر والكواكب والنجوم، ونهض أبو الوليد مسحوراً بالكلمات العجيبة، مأخوذاً بروعة البيان.
تمتم وهو يقصّ على أصحابه:
ـ لقد سمعتُ منه قولاً.. واللهِ ما سمعتُ مِثله قطّ، لم يكن شعراً ولكن فيه حلاوة الشعر، ولم يكن سِحراً ولكن فيه أثر السحر.
سكت قليلاً وأردف:
ـ أطيعوني يا معشر قريش.. خَلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه.. والله لَيكوننّ لقوله نبأ عظيم.
* * *