New Page 1

العودة   .. :: منتدى تاروت الثقافي :: .. > منتديات العلوم الدينية > منتدى أفراح وأحزان آل البيت عليهم السلام

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 26-04-05, 02:16 PM   #1

عاشـ sanabis ـق
عضو مشارك  







رايق

ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي إسمه أحمد


[align=center]اللهم صلي على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين[/align]

في وادٍ ضيّق طويل وعلى مقربة من بئر زمزم، نشأت مكّة قريةً صغيرة لتصبح بعد عقود من السنين « أمّ القرى ». ولقد ظلت مكّة بعيدة عن عبث الفاتحين، قروناً مديدة تتألّق مجداً بين مدن الحجاز وقُراه، ففي أرضها: البيت العتيق.. البيت الذي بناه إبراهيم وإسماعيل.
حتّى إذا أطلّ عام 570 من الميلاد، فكّر الأحباش ـ الذين احتلّوا اليمن في القرن السادس الميلادي ـ في السيطرة على الطريق البرّي للتجارة، دعماً لموقف حلفائهم الرومان، فيما اتّجه الفُرس إلى تحريض يهود اليمن والنصارى المعارضين، وتعزيز وجوداتهم، واستيقظ الحجاز على دويّ الصراع بين الامبراطوريتين.
وهكذا وجدت مكّة نفسها في مهبّ الإعصار القادم من اليمن، فقد زحفت جيوش الأحباش يتقدمها فيل مدرّب من أجل تدمير بيت الله؛ بعد أن عجز « القليس »(1) عن اجتذاب أنظار العرب، فظلّت قوافلهم تهوي في بطون الأودية في مواسم الحج.
كان عبدالمطّلب قد تخطّى السبعين آنذاك؛ شيخ وضيء القسمات في عينيه انعكاسات من بريق النبوّات الغابرة، مذ وطئت قدم إبراهيم الخليل ترابَ « وادٍ غيرِ ذي زرع ».
واعتصم المكيّون ـ الذين تهيّبوا ضخامة الغزو ـ برؤوس الجبال ينظرون من بعيد إلى الكعبة مهوى الأفئدة، ويردّدون كلمات قالها عبدالمطّلب.
ـ للبيت ربٌّ يَحميه.
وقف أبرهة قبالة الكعبة ينظر باستعلاء إلى جنوده وهم يتقدّمون لتدمير الكعبة وسحقِ كرامة الإنسان العربي الذي ظلّ محافظاً على ولائه لإبراهيم. وفي تلك اللحظات المثيرة ظهرت في الأفق سحابة دَكناء سُرعانَ ما أسفرت عن أسراب كثيفة من طيور « أبابِيل » تحمل بمناقيرها حجارةً من سِجّيل.
وقد يتصوّر المرء مدى الدهشة والرعب الذي غمر الجنود، وهم يتعرّضون لقصف جهنميّ رهيب، أحال قوّتهم إلى ضعف، ومرّغ كبرياءهم بالوحل.
ورأى أبرهة غضب السماء يبدّد أحلامه في قلب الحجاز، فامتلأت نفسه رعباً، كان يتفادى الحجارة المشتعلة دون جدوى، وولّى الجيش مذعوراً لا يلوي على شيء.
وشهدت مكّة والطريق المؤدية إلى اليمن تساقطَ جثث الأحباش كعصفٍ مأكول، ومات أبرهة على بوّابة صنعاء.
وفي ذلك العام ذاعت شهرة عبدالمطّلب حفيد إبراهيم وراعي البيت العتيق.

* * *

وقد ولد الربيع
ورأى عبدالمطّلب أن يزوّج ابنه عبدالله آخر الأبناء بعد أن بلغ من العمر أربعة وعشرين عاماً.
واقترن الشاب الذي افتداه أبوه من الإبل(2) بفتاة اسمها « آمنة » كريمة المَحتِد، فأبوها سيّد بني زهرة.
وأقام العَروسان عند أهل العروس استجابةً لعادة عربيّة حينما يتمّ الزواج في بيت العروس.
ولمّا مضت ثلاثة أيام انتقلت الأسرة الصغيرة إلى منازل بني عبدالمطّلب.
وعندما انتهت الاستعدادات في رحلة قريش في الصيف غادر عبدالله مكّة نحو الشام، إلى مدينة غزّة.
وقد استغرقت الرحلة شهوراً ليعود بعدها إلى أرض الحجاز. ويشاء القدر أن يتوقّف عند أخواله في مدينة يثرب، ولم يكن يدري أن هذه المحطّة ستغدو مثواه الأخير.
وفُجِعت العروس بوفاة زوجها وكانت حاملاً، كما فُجع أبوه عبدالمطّلب ومكّة كلها بهذا النبأ.
وتأثر عبدالمطّلب لرحيل ابنه السريع، وهو الذي افتداه فداء لم تسمع به العرب من قبل.
لم يترك عبدالله سوى خمسة من الإبل وقطيعاً صغيراً من الغنم وجارية هي أمّ أيمَن.
وتمرّ الشهور وتحين ساعة المخاص ليولد حفيد عبدالمطّلب؛ كان سيّد مكّة في رحاب الكعبة عندما بُشِّر بميلاد الحفيد. وفي تلك اللحظة تفجرت ينابيع الحبّ في قلب الجدّ.
احتضن الشيخ حفيده وهتف:
ـ سمّيتُه محمداً.
وانتقل الاسم العجيب في منازل مكّة، اسم جميل حلو، يشبه نغمة حالمة.. كيف ومض هذا الاسم في ذهن سيّد مكّة، ويتساءل بعضهم:
ـ وأسماء الآباء.. والأجداد.. لماذا محمّد ؟!
تمتم الشيخ:
ـ ليكون محموداً في السماء وفي الأرض.
وهكذا اقترن ميلاد محمّد بعام الفيل.. لقد هُزمت عاصفة الشتاء ووُلد الربيع في موسم الربيع(3).

* * *

القاعدة الجغرافية للتاريخ
إذا كان للبيئة تأثيرها في طبيعة الإنسان، فلقد أكسبت بيئة الحجاز، بتضاريسها ومناخها، وبمعالمها الجغرافية الإنسانَ العربي صفات عديدة.
فهو خفيف في وزنه، نحيف في بدنه، صبور في مواجهة المشاقّ قنوع في طعامه، في فكره سرعة وبديهة، وفطنة وذكاء وخيال مشتعل، وكبرياء وعزّة تتألق في عينيه السوداوَين، وشاعريّة مُرهفة، جعلته شغوفاً بالحِكمة والأمثال، ولم تكن الكاميرا ـ التي ظهرت قبل أقل من قرنين ـ موجودة آنذاك لتنقل لنا صورة عن هذا الإنسان العظيم.
ولكن التاريخ الذي استيقظ مأخوذاً في سنة 610 م قدّم لنا ملامح عن محمّد وقد بلغ الذروة في نموّه الجسدي والفكري.
لم يكن فاحش الطول، كان رَبعة وقد « جُعل الخير كلّه في الربعة » أمّا بَشَرته فكان أزهَرَ لونُها، أي بيضاء ناصعة، لا تشوبها صُفرة ولا حمرة.
رَجِلُ الشَّعر لا مسترسل ولا جَعد، يشبه تموّجات الصحراء، وكان يبلغ شحمةَ أُذنيه، وقد بدت سوالفه متلألئة.
واسع الجبين، بين حاجبَيه فاصل لطيف، وعيناه نجلاوان، فإذا ابتسم أفترّ عن لآلئ منضودة.
فإذا مشى بدا كزورق ينساب في بحيرة هادئة، وكان يقول:
ـ أنا اشبه الناس بآدم، وكان أبي إبراهيم أشبه الناس بي.

* * *

الصبي العظيم
نشأ محمّد صلّى الله عليه وآله في أحضان جدّه عبدالمطلب، فكان شغله الشاغل، لكأنّ الصبي ورث الحب العظيم عن أبيه الراحل.
ورأى سيّد مكّة أن ينشأ حفيده في الصحراء والبوادي، ولقد كانت نساء البادية يقصدن أمّ القرى في السنوات العجاف يرضعن أولاد الأشراف لِقاء أجر معيّن.
وكانت المرضعات يقصدن البيوت الثريّة طمعاً في العطاء، فكان اليتيم آخر ما يفكرن فيه.
وجاءت حليمة تبحث عن وليد، فإذا هي ترى محمداً، ولعلّها إرادة السماء أن يتفجّر نبع الحب في قلب « السعديّة » لتحتضن الوليد اليتيم، وتنطلق به إلى البادية.
ومرّ عامان تدفّق فيهما الخير في تلك البقعة من دُنيا الله، فإذا ذلك الصبي يُمن وبَرَكة.
وتشعر حليمة بالحزن، فلقد آن للصبيّ أن يعود إلى أمّه، وما يزال ينبوع الحب يتدفّق في قلبها.
وصادف أن اجتاح الوباء مكّة، فخشي عبدالمطّلب على حفيده عاصفات الدهر، واستجابت آمنة لرغبة الجدّ، وهي ترى عينَي حليمة تبرقان فرحةً بمحمّد.
ويعود الصبيّ إلى البادية تملأ عينيه الصحارى، وتبهره سماؤها الزاخرة بالنجوم.
وتشعر حليمة بأنّ الصبي قد أضحى جزءاً من كيانها، حتّى جعلها تخشى عليه عوادي الزمن.
ويسأل الصبي أمّه بنت الصحراء عن إخوته في الرضاعة:
أين الشيماء وأنيسة، وعبدالله ؟
فتقول له:
ـ فدتك روحي، إنّهم يرعون غنمنا.
وعندما رأى في قلبه رغبة أن يذهب معهم، فينطلق في الصحراء مع إخوته؛ رجّلت شعره وألبسته ثوباً جديداً، ولم تنس أن تضع في جيده قلادة.
وتساءل الصبي عن سرّ القلادة، فقالت:
ـ إنّها تحميك من الشرور.
ويخلع محمّد القلادة قائلاً:
ـ هناك يا أمي مَن يرعاني ويحميني من الشرور.
وارتسمت علامة استفهام في عينَي مَن وهبته الدفء واللبن، فيقول:
ـ الذي خلقني يحميني ويرعاني.
وتقف الأمّ مشدوهة أمام حِكمة هذا الصبيّ المكّيّ.
وينطلق محمّد يملأ رئتَيه بنسمات الصحارى مسروراً بأخيه وأختَيه، في صحراء لا تكاد تنتهي.

* * *

وترحل الأمّ
إنّ القدر لا يكفّ عن رمي السهام، ولقد شاء أن يختطف هذه المرّة آمنة كما فعل ذلك بعبدالله؛ فلم يكد الصبي يبلغ من عمره ست سنين حتّى وجد أمّه في « الأبواء »(4) تنطفئ كما تنطفئ الشموع وهي لم تكد تبلغ الثلاثين بعد.
ويرى سيّد مكّة حفيده وحيداً قد فقد حنان الاُمومة كما فقد حنان الاُبوة من قبل، فيتضاعف حبّه له حتّى ليكاد يملأ كلّ كيانه.
ومرّ عامان آخران عاش خلالهما الصبيّ في ظلالٍ وارِفة يغمره الحب وترعاه كفّ بيضاء نديّة، ولقد كان سيّد مكّة وراعي بيت إبراهيم يرى في حفيده مجداً وأيّ مجد، فطالما أصغى إلى بشارات الرُّهبان وكهنة ذلك الزمان بأنّ نبيّاً قد أطلّ زمانُه، فينظر إلى محمّد، فإذا هو الروح التي تنطوي في أهابها جذوةُ النبوّات.
وعندما بلغ محمّد الثامنة أغمض عبدالمطلب عينيه بعد أن اطمأن إلى مصير حفيده العظيم، وكانت آخر كلماته وهو يُوصي قبيلته قائلاً: لقد خلّفتُ لكم الشرف العظيم.
انتخب سيّد مكّة من بين أبنائه أبا طالب، وكان شقيق عبدالله، ولقد كان عبدمناف يحبّ أخاه الذي سافر إلى الشام ولم يَعُد، فانتقل حبّه إلى ذكراه الخالدة منه: ذلك الصبي الدافئ الذي تعلّم من قسوة الزمان الصمت والصبر والتأمّل، كما تعلّم منه الأدب.
فإذا الحكمة تشعّ من عينَيه، والجمال الحقيقي يتألّق في جبينه.

* * *

شيخ البطحاء
وبالرغم من أنّ الثراء يصنع بسحره الزعامات، في ذلك الزمان وربّما في كلُّ زمان ومكان، إلاّ أنّ أبا طالب كان استثناءً لقاعدة اعتادها الناس.
فلقد ورث أبو طالب زعامة مكّة بمجده الأخلاقيّ وبروحه الكبيرة، حتّى قال مؤسس البلاغة في دنيا العرب: « إنّ أبي ساد الناس فقيراً، وما ساد فقيرٌ قبله ».

* * *

في كَنَف فاطمة
وفي منزل أبي طالب يجد الصبيّ اليتيم نبعاً يتدفّق حناناً ومحبّة، فلقد وجد فاطمة بنت أسد أُمّاً تمكنت أن تُبدّد في قلب الصبيّ كلّ مشاعر اليُتْم، فإذا به في منزل جعلت منه فاطمة عشّاً دافئاً في زمن الزمهرير.
ولقد بلغ من رعايتها له أن كانت تحرم أولادها من القُوت في أيّام القحط وتُطعمه.
وبلغ من تقديره لها وحبّه ايّاها أنّها لما ماتت، انفجر باكياً وهو يتمتم:
ـ اليوم ماتت أُمّي.
ثمّ كفّنها بقميصه ونزل في قبرها واضطجع فيه، حتّى إذا رأى الدهشة ترتسم على وجوه أصحابه، قال:
ـ كانت أُمّي؛ تُجيع أولادَها وتُطعمني، وتُشعثهم وتدهنني، وما أحسستُ باليُتم منذ لجأتُ إليها.

* * *

حِلف أخلاقيّ
تخطّى محمّد العشرين من عمره عندما نشبت حرب « الفِجار »(5)، فاشترك مع عمّه أبي طالب في صدّ العدوان عن « كنانة ».
قال له الكنانيّون لما رأوا النصر في جبهتهم:
ـ يابن مُطعم الطير وساقي الحجيج، لا تَغِب عنّا، فإنا نرى بحضورك الغلبة والظفر.
فقال محمّد:
ـ إذا اجتنبتم الظلم والعدوان فإنّي لا أغيب عنكم.
وعاهدوه على ذلك.
وأصبح محمّد شخصيّة لها ثِقلها في المجتمع المكّيّ، فلقد كان سيّداً وحصوراً.
وكانت مكّة مدينة الأقوياء، وكان الأقوياء فيها هم الأثرياء، والثروة في بعض الأحيان ـ بل في أغلبها ـ شيطان يُغوي صاحبها ويفسده.
وشهدت دارُ عبدالله بن جدعان تحالفاً أخلاقيّاً من أجل منع العدوان على الوافدين إلى مكّة في مواسم الحج.
وكان محمد عضواً في ذلك الحلف الذي أنقذ « القتول »(6) من فضيحة الاغتصاب والعار.

* * *

الجبل والسماء
لقد اتّسم محمدٌ بالصمت، والصمت محراب التأمّل، يغوص فيه المرء إلى الأعماق البعيدة، أو يُحلِّق في السماء بأجنحة من النور.
وعندما يُصغي المرء، عندما يتعلّم لُغة الصمت، يسمع في عوالمه نداءات عجيبة.. نداءات تعجز الأُذن الآدمية عن سَبرها؛ فإذا الأشجار تتحدّث، وصخور الجبال، وإذا للأشياء لُغَتُها.
وكانت الحياة في مكّة صاخبة طافحة بالضجيج؛ من أجل هذا يمّم محمّد وجهه شَطرَ الجبل؛ فكان حِراء على ميعاد مع هذا الإنسان.
وأصغى محمّد إلى نداء الجبل؛ أن هَلُمَّ إلى الأعالي.. إلى القِمم؛ فالإنسان يرى العالم بوضوح أكثر من فوق جبل.
ولم يكن حراء جاراً قريباً لمكّة، بل يبعد عنها ثمانية أميال عربية(7)، وكان محمّد يطوي تلك المسافات باتجاه الشمال ليأوي إلى غار في السفوح لا يكاد يتّسع إلاّ لثلاثة أشخاص.
وفي ذلك الغار ومن على سفوح حراء، كان محمّد يتأمل الأرض والسماء.. يتأمل عالمه الكبير الذي يحيط به ويغوص في عالمه الاكبر المودع في أعماق نفسه.
وربما في غمرة الصمت والليل؛ سطع سِرّ الوجود بكلّ غموضه وشفّافيّته، ولم يكن هناك من الأوهام والأباطيل ما يحجب ذلك عنه، فاكتشف أجوبة طالما حيّرت الإنسان مند القِدم وإلى أن يقضي الله أمراً كان مَفعولاً.
وكانت الصحراء باتّساعها وترامي أطرافها، والجبال بشموخها وصمتها، والنجوم في أغوارها التي لا يَسبِرها أحد.. عَوناً له في اكتشاف الحقيقة، حقيقة الأشياء وجَوهرها.

* * *

يومَ اتّصلت السماء بالأرض
هل كان الجوّ صحواً، فالشمس تغمر الأشياء بالدفء والنور ؟ هل كان غائماً فبدت السُّحُب في زُرقة السماء سُفُناً مُبحِرة ؟ أم تراكمت فيها جبال، وبحيرات وتِلال وخلجان؟
هل اشتعلت البُروق، ودوّت الرعود ذلك اليوم، هل كان محمّد في أحضان الغار أم على سفح الجبل بين صخور حراء ؟!
لا يعلم المرء، ما حصل في تلك اللحظات المثيرة.. يوم هبط الملاك يحمل كلمات السماء.
ربّما تكهرب الفضاء غُلالة شفّافة من نور عجيب تغمر المكان.
نور لا ينتمي إلى ضوء الشمس، نور يشبه ما يسطع في النفوس ويُضيء القلوب.
غمر الصمتُ الأشياء.. تلاشت الأصوات.. انسحبت الأشياء إلى مَكنوناتها، ولم يعد محمّد يسمع شيئاً.. سوى كلمات.. كلمات مزلزلة تنفذ في أعماقه.. نفوذَ الشعاع في البحيرة الرائقة:

ـ « اقْرَأْ.. إقْرَأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ.. خَلَقَ الإنْسَانَ مِن عَلَق.. إقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَم.. الّذي عَلَّم بالقَلَمِ.. عَلَّمَ الإنسانَ مَا لم يَعْلَم ».

صوت سماويّ يكاد يستوعب الدنيا بأسرها...
ـ يا محمّد! أنت رسولُ الله وأنا جبريل.
أمر عجيب! ماذا حدث ؟ ما هذا الدويّ الذي تردّده الكائنات ؟
لكأنّ صوت المَلاك قد فجّر في مكنونها الأسرار كما تنفجر الصخور عن ينابيع الحياة في لحظة تماسٍّ مع عالم بعيد... عالم لا ينتمي إلى الطبيعة في تكوينه وعناصره.
الأشواك وذرّات الرمال، والشجيرات المتناثرة هنا وهناك، والصخور التي تبدو صمّاء تردّد بصوت له دويّ:
ـ يا محمّد! أنت رسول الله.
مرّت لحظات مشحونة بروح سماويّة.. سمع فيها آخرُ الأنبياء في التاريخ حديثَ الكائنات.. إنّها لحظات الولوج في عالم الملكوت.
انطوت اللحظات لتعود الأشياء إلى سابق عهدها منذ آلاف السنين، وانطوت لحظة الاتّصال بين رسولٍ مَلاك وإنسان... رسول السماء، ورسول الأرض.
انحسرت تلك الشحنات التي غمرت المكان في لحظة اتّصال لايُطيقها إلاّ قلب نبيّ.
لم يبقَ في كيان محمّد سوى كلمات لا تنتمي إلى ابداع بشريّ، كلمات قادمة من وراء الأفلاك... كلمات يلتهب لها الجسد الآدمي.

* * *

العودة
ويعود محمّد إلى مكّة، ينوء بحمل الرسالات جسده الملتهب ينتفض، حتّى إذا التقى خديجة هتف:
ـ زَمِّلُوني... زَمِّلوني..
ورأت خديجة جبينَ زوجها العائد من الجبل مُضيئاً قد التمعت فيه حبّات العرق كقطرات الندى، مبهوراً بلحظة الاتّصال.. الاتّصال بين عالمَين.. عالم الطبيعة، وعالم ما وراء المحسوسات.. أو الشهادة والغيب.
قالت خديجة مأخوذةً بما سَمِعتْ:
ـ أبشِر يابنَ العمّ.. إنّي أرجو أن تكون نبياً.
وأوى محمّد إلى فراش دافئ، فيما انطلقت خديجة التي هزّتها المفاجأة إلى « وَرَقَة بن نوفل »(8).
هتف « ورقة »:
ـ قُدّوس قُدّوس.. لقد جاءه الناموسُ الأكبر الذي جاء موسى بنَ عِمران.

* * *

الإيمان
آمنت خديجة، فكانت أوّل أمرأة تعتنق رسالة السماء، لقد عاشت خديجة مع زوجها خمس عشرة سنة، عرفت روحه العظيمة التي تكاد تسع الدنيا، وعرفتْ أخلاقه الكريمة التي تسمو به على عالم الملائكة؛ لهذا آمنت به وشهدت أنّه رسول من الله إلى الناس كافّة.
إنّ للمرأة في قلب زوجها مكاناً، جزءاً من الروح لا يعرف الانفصال. مِن أجل هذا كانت أوّل انسان يبشّره الرسول بنبأ السماء.
وجاء عليّ، ذلك الفتى الذي لا يعرف في الدنيا سوى ابن عمّه محمّد.
ومحمّد لم يكن لعليّ ابن عمّ ولا حتّى أخ فحَسْب، بل كان له أباً ومعلّماً، أرأيتَ كيف يتّبع الفصيلُ اُمَّه، يشعر بالذُّعر إذا لم يكن قُربها، كذاك عليّ كان يتبع مُعلّمه في الحياة.
طالما انطلق معه إلى حراء في السنين الخوالي، يتعلّم من حركاته وسَكَناته ومن مَنطِقه وصمته دروساً وأيَّ دروس!
يقول مؤسس البلاغة في دنيا العرب:
« ولقد كنتُ أتّبعه اتّباعَ الفَصيل أَثَرَ أُمّه، يَرفَعُ لي في كلّ يومٍ من أخلاقه عَلَماً ويأمرني بالاقتداء به. ولقد كان يُجاور في كلّ سَنة بحِراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيتٌ واحد يومئذ في الإسلام غيرَ رسول الله وخديجةَ وأنا ثالثُهما، أرى نورَ الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النُّبوّة. ولقد سمعت رَنّة الشيطان حين نزل الوحيُ عليه صلّى الله عليه وآله، فقلتُ: يا رسول الله، ما هذه الرَّنّة ؟ فقال: هذا الشيطان قد أيسَ من عبادته، إنّك تسمعُ ما أسمع، وترى ما أرى، إلاّ أنّك لستَ بنبيّ ».
وقد قُدِّر لهذا الفتى أن يُواكب من تاريخ الإسلام أكثرَ الفصول إثارةً. حتّى أصبحَ رَمزاً من رُموزه الخالدة.
وتمرّ سبع سنين ليس على وجه الأرض سوى ثلاثة نفر يعبدون الله على دين الإسلام، دين إبراهيم.

* * *

فأس إبراهيم
إنّ للكلمة أحياناً فِعل الخوارق، مثلما تنفجر الصخور عن ينابيع الحياة، مثلما تنفجر الأرضُ الهامدة عن براكين غضب؛ يكون للكلمة شأن؛ ربّما تكون سيفاً بتّاراً، نهراً دفّاقاً، أجراساً ونواقيس، فأساً تحطّم وجوه الآلهة المزّيفة.
وهكذا قال محمّد صلّى الله عليه وآله: لا إله إلا الله.
وانخلعت قلوبُ الذين كَفروا، فمئات الآلهة في خطر، لقد جاء محمّد بدِين جديد.. إنّه يُسفِّه الآباء والأجداد.
إنّه خطر على آلهة قريش، وآلهة قريش عِبادة وتِجارة. وكان على أبي جهل، وأبي سفيان، وأُميّة بن خلف أن يتحرّكوا ما دامت مئات الآلهة المُحدِقة بالكعبة جامدةً لا تتحرك، لا تكفّ عن النظر ببَلاهةٍ إلى ما حولها ومَن حولها.

* * *

الشمس والقمر
كانت الشمس تتألقّ في الاُفق تغمر الكعبة بالنور، وقافلة قادمة من أرض اليمن تنحدر من التلال القريبة، وعَبيد منهمكون بإنجاز أعمال لأسيادهم؛ لهم بَشَرات مختلفة؛ هذا إفريقيّ وجهه يشبه لؤلؤة سوداء، وذاك قادم من أرض الروم، وذلك عربيّ الملامح.
لقد وُلدوا أحراراً ثمّ عصف بهم القَدَر.
كلّ شيءٍ بدا جامداً في مكانه جُمودَ الآلهة المحيطة بالكعبة، كلّ شيء كان ساكناً سكونَ المياه الآسنة في المستنقعات.
شيء واحد بدا يتحرّك، تحرّك النسغ في الأشجار يوم يطلّ الربيع.. قطرات مطر تتساقط فوق المياه الراكدة، فتُحيل السُّكونَ إلى دوائر متموّجة.
نسمة هواء تملأ الصدور ببشائر الحرّية.
نهض سادة قُريش وأثرياؤها، نهضوا غاضبين، فمحمد يهدد أمجادهم، آلهتَهم وكلَّ امتيازاتهم بالخطر.
بدا وجه أبي جهل مسودّاً من الحقد، والقلق يغمر وجه أبي سفيان، عندما دخل وفد قريش منزل أبي طالب.
كان المنزل على بساطته يمثّل قلعة المقاومة التي لجأ إليها محمّد صلّى الله عليه وآله.
العيون تُبرق حقداً ، وقد أحدق الرجال بأبي طالب؛ هَيْمَن صمتٌ مهيب. كان أبو طالب ينظر إليهم بودّ، ليدمّر عاصفة الحقد.
قال أبو جهل:
ـ لن نصبر على شتم آبائنا وعيب آلهتنا، فقل لابن أخيك لِيَكُفّ عنّا أو ننازله وايّاك حتّى يهلك أحد الفريقَين.
كان الوضع متأزّماً يُنذر بوقوع حرب أهلية لا تُبقي ولا تَذَر، وسوف تشتعل الحرائق، وتتحول الكعبة، إلى مسرح رهيب للقتال.
هكذا فكّر أبو طالب، فأراد أن يخفّف من توتّر الوضع.
دخل على النبيّ وقال:
ـ يابن أخي! أبقِ علَيّ وعلى نفسك، ولا تحمّلني من الأمر ما لا أُطيق..
امتلأت عينا الرسول بالدُّموع.. سوف يُغادر هذه القلعة ليُقاتل وحدَه الذين كفروا، إنّهم لا ايمان لهم.
بكى من أجل عمّه، لقد شاء الله أن يحارب هذا الرجلُ في شيخوخته.. أن يُدافع عن رسالة السماء.. أن يقف بوجه شياطين الأرض:
قال رسول السماء:
ـ يا عمّاه! واللهِ لو وَضَعوا الشمسَ في يَميني، والقَمَرَ في شمالي على أن أتركَ هذا الأمر ما تركتُه أو أَهلِك دونه.
نهض النبيّ ليُغادر قلعةً عتيدة بدّدت عنه مشاعر اليُتم يومَ كان صغيراً، ومنحته السلام في زمن الخوف.
هتف الشيخ بابن أخيه:
ـ أُدنُ مني.
وطبع أبو طالب قُبلة دافئة على جبينٍ أزهر أضاءته السماء، وقال:
ـ اذهبْ يا بنَ أخي وقُل ما تشاء.. والله لا أُسْلِمُك لشيء أبداً..
ما تزال راية المقاومة تخفق فوق القلعة، وما يزال شيخ البطحاء قويّاً مهاباً لن يُزلزله عن موقفه أحد.

* * *

في رحاب البيت العتيق
الكعبة تنشر ظلالها الوارفة في المكان وقد بدت ذُرى التلال تتوقّد حُمرة في شمس الصباح، كان رسول الله جالساً وحدَه غارقاً في تأمّلاته، يفكّر، قد صنع من الصمت محراباً له يقيه شُرور العالم.
وكانت ثُلّة من زعامات قريش جالسين؛ يتصفحون وجوه الآلهة، التي بدت ذلك الصباح كائناتٍ خرافيّة تُحدّق ببلاهة.
قال عُتبة بن ربيعة وقد رأى محمّداً وحده:
ـ يا معشر قريش! ألا أقوم لمحمّد وأعرض عليه أموراً لعلّه يقبل بعضها ويكفّ عنّا.
هزّ الجالسون رؤوسهم بحماس:
ـ نعم يا أبا الوليد.
نهض عتبة وتقدّم نحو رسول السماء، جلس عنده بعد أن حيّاه تحية الصباح، وأقبل عليه يحدّثه بودّ:
ـ يابن أخي، إن كنتَ تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً، جمعنا لك مِن أموالنا حتّى تكونَ أكثرنا مالاً.
وإن كنتَ تريد شَرَفاً، سوّدناك علينا حتْى لا نقطع أمراً دونك. وإن كنت تريد مُلكاً، ملّكناك علينا.
غادر النبيّ محراب الصمت وقال:
ـ أفرِغتَ يا ابا الوليد ؟
ـ نعم يابن أخي.
ـ إسمع مني:
بِسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيم

« حم. تنزيلٌ من الرحمنِ الرحيم. كِتابٌ فُصِّلَت آياتُه قُرْآناً عَرَبيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمون. بَشيراً ونَذيراً فأعْرَضَ أكثَرُهُم فهم لا يَسمَعُون. وقَالوا قُلوبُنا في أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُوننا إلَيه وفي آذاننا وَقْرٌ ومِن بَيننا وبَينكَ حِجابٌ فاعْمَلْ...».

ما بال عتبة تغشى عينيه طُيوفٌ تعبر فيها الغيوم ! ما باله يبدو سَكرانَ لكأنّه يطير في عوالم بعيدة ! هل لهذه الكلمات التي تنساب كنهرٍ هادئ كلّ هذا السحر ؟!
الكلمات تتدفّق كنبع يتفجّر بالحياة:

ـ « فإن أَعَرضُوا فقُلْ أنذَرتُكُم صاعِقَةً مِثلَ صاعِقَةِ عادٍ وثَمود ».

دوّت الصواعق في أُذنَي عتبة، تجسّدت له مشاهد من قبائلَ غابرة عصفت بها الريح من كلّ مكان.

ـ « فأَرسَلْنا عَلَيْهم رِيحاً صَرْصَراً في أيّامٍ نَحِسات لنُذيقَهم عذابَ الخِزي في الحياةِ الدُّنيا... ».

ـ « وأمّا ثَموَد فهَدَيْناهم فاستَحَبُّوا العَمَى على الهُدى فأَخَذَتْهُم صاعقةُ عَذابِ الهُون... ».

اشتعلت الصواعق، ودوّت الرعود.. وأعقب ذلك يومٌ تُحشر فيه النفوس الآدميّة لترى جزاء أعمالها...
ما يزال عتبة مبهوراً مأخوذاً برَوعة البيان، بانسياب الكلمات، بدويّ المشاهد، انبعث في أعماقه نداء.. إنّه كلمات السماء، كلمات لا يمكن أن تكون من صنع بشر، كلمات رائعة أخّاذة، فيها سحر ورَوعة، فيها حلاوة وطَلاوة.
رسول الله يرسم المشاهد الخلاّبة:

ـ « إنَّ الّذين قالُوا رَبُّنا اللهُ ثُمّ استقاموا تَتنزَّلُ عَلَيهِمُ الملائِكَةُ أَلاّ تَخافوا ولا تَحزَنوا وأَبْشِروا بالجَنّةِ التي كُنتم تُوعَدُون ».

انبثقت جنّة من نخيل وأعناب، وارفة الظلال، فيها ما تشتهي الأنفس وتَلذّد الأعين..

ـ « ومِن آياتِهِ الليلُ والنَّهارُ.. والشَمَسْ والقَمَرُ، لا تَسجُدوا للشمسِ ولا للقمر واسجُدوا للهِ الذي خَلَقَهُنّ إنْ كُنتُم ايّاه تَعبُدُون ».

وهوى النبيّ ساجداً لله الذي خلق الشمس والقمر والكواكب والنجوم، ونهض أبو الوليد مسحوراً بالكلمات العجيبة، مأخوذاً بروعة البيان.
تمتم وهو يقصّ على أصحابه:
ـ لقد سمعتُ منه قولاً.. واللهِ ما سمعتُ مِثله قطّ، لم يكن شعراً ولكن فيه حلاوة الشعر، ولم يكن سِحراً ولكن فيه أثر السحر.
سكت قليلاً وأردف:
ـ أطيعوني يا معشر قريش.. خَلّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه.. والله لَيكوننّ لقوله نبأ عظيم.

* * *

__________________
[align=center]وما من كاتب الا سيفنى ***ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غيرشيئ*** يسرك في القيامة أن تـراه [/align]

عاشـ sanabis ـق غير متصل  

قديم 26-04-05, 02:19 PM   #2

عاشـ sanabis ـق
عضو مشارك  







رايق

مشاركة: ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي إسمه أحمد


في الجانب الآخر من البحر
استنفدت قريش أساليبها في قهر محمّد صلّى الله عليه وآله، فالكلمات القادمة من وراء الأفلاك تطوف منازل مكّة، وتعبر أبنيتها، تُوقظ النائمين، تدلّهم على الفجر القادم من وراء آلاف الليالي المُترَعة بالظلام الحالك الثقيل.. كلمات لها تألّق الضوء، وشذى البنفسج، ونسمات الربيع.. أيّها النائمون انهضوا.. أيّها المقهورون هَلُمّوا هلمّوا.. إلى عالم الأمل والحرية.
بدت الآلهة حاقدة، ربما كان هُبَل أكثرها حقداً، فهو الذي يحرس قوافل قريش، ويملأ جيوب تجّارها ذهباً وفضة.
صعّد زعماء مكّة حربهم ضد المسلمين، السياط تنهال على الأجساد الآدميّة، والرمضاء تُنضج الجُلود، وما زال تجّار قريش هم أصحاب الأمر والنهي في هذه القرية الظالم أهلها.
اجتمع المسلمون في دار الأرقم، الحزن والعذاب يطلّ من العيون وآهات المُعذَّبين تملأ الفضاء.
قال رسول الله وقلبه يذوب حزناً:
ـ لو خرجتم إلى أرض الحبشة؛ فإنّ بها ملِكاً لا يُظلَم عنده أحد...
الحبشة أرض صدق... اخرجوا إليها حتّى يجعل الله لكم فَرَجاً ممّا أنتم فيه.
انفتحت كُوّة من ضياء و... نافذة من أمل...
ومع الخيوط الأُولى من فجر أحد أيّام رَجَب، كانت قافلة صغيرة تتسلل بحذر، تودّع مكّة أم القرى وما حولها صوب البحر الأحمر.
وشهدت تلك المسافات بين مكّة وشواطئ البحر قوافل عجيبة.. لا تحمل معها من متاع الدنيا شيئاً، إنّما زادها قلوبٌ مؤمنة وآمال ورديّة في حياة آمنة مطمئنة.
وكانت السفن في ميناء جدّة تحمل المهاجرين إلى أرض طيبة يحكمها نجاشيّ عادل لا يُظلَم في حضرته أحد.

* * *

سنوات الرماد
أعلنت قريش حرباً ضروساً.. حرباً لا هَوَادة فيها. فيها أسلحة لا تقلّ فَتْكاً عن السيوف والنِّصال والرماح.. الجوع.. والحصار.
كان أبو جهل متحمّساً لفكرة المقاطعة. إنّها سلاح قريش الذي لا يُقهر. لن يستطيع أبو طالب هذه المرّة الصمود. لن تُجديه المقاومة.
سوف يُسلّم محمّد نفسه ويستسلم، وعندها ستغفو الآلهة قريرةَ العين، وينام تجّار مكّة ناعمي البال.
وشهدت الكعبة مؤتمراً خطيراً تداولت فيه الرؤوس بُنود الحصار الشامل اقتصادياً واجتماعياً.
فلا علاقات مع بني هاشم، لا زواج ولا مُصاهَرة، لا بيع ولا شراء ولا كلّ شكل من أشكال العلاقات الانسانية، والثمن من وراء ذلك كلّه تسليم محمّد أو تكميم فمه.
قاد شيخ البطحاء قبيلته إلى الخيار المرّ.. إلى وادٍ غير ذي زرع.. إلى شِعْب بين الجبال.
وشوهد أبو طالب ذلك اليوم وهو يتفقّد الوادي مع أخيه حمزة لسدّ ثغرات في المكان، فقد يتسلل منها الغادرون لاغتيال محمّد صلّى الله عليه وآله.
لقد أضحى محمّد صلّى الله عليه وآله رمز التحدي.. القلب النابض الذي يخفق بالحياة والأمل. وتمرّ الايّام والشهور...
كان الجوع والحرمان يفعل فعله في الأجساد الآدمية.
كانت تجربة مريرة.. علّمت تلك القبيلة الصغيرة الصلابة والثبات. علّمتهم أشياء كثيرة، تعجز عن استيعابها الشعوب في ظلال الترف وحياة الدَّعة والخُمول.
وتمرّ الايّام والشهور، والوادي مُفعَم بروح الإيمان والصلابة والثبات، حتّى إذا اكتملت أعوام ثلاثة، بعث الله الأُرضة، تلتهم صحيفة الحصار، وتنسف بُنودَها الظالمة بنداً بنداً؛ فلم تترك أثراً إلاّ كلمة واحدة تنطوي في حناياها أسرار الوجود، وتفاصيل الكون: باسمكَ اللّهمّ. تلك الكلمة التي أورثها آدمُ الأجيال جيلاً بعد جيل.
وجاء رسول الله يحمل إلى عمّه البُشرى:
ـ يا عمّ! إنّ الله قد سلّط الأُرضة على صحيفة قريش..
وانطلق أبو طالب يتحدّى قريشاً، فهتف بايمان أثبتَ من الجبال:
ـ يا معشر قريش، إنّ ابن أخي قد أخبرني أنّ أُرضة قد أكلتْ صحيفتَكم، فمحت فيها الظلم وكلمات الغدر..
حتّى إذا دخل الرهط من قريش جَوف الكعبة، اتّسعت عيونهم دهشة؛ لقد قَهَرتْهم حشرة صغيرة.. مرّغت كبرياءهم في الوحل.

* * *

فَقْدُ الأحبّة غُربة
مرّت سنوات عشر، سنوات مثل الجمر، وفي ذلك العام خرج المحاصَرون من الوادي، بعد إلغاء صحيفة المقاطعة، خرج رسول الله والذين آمنوا، خرج أبو طالب، وقد هدّته السنون والأيّام؛ وعاد الصغار يلعبون في شوارع مكة وأزقّتها، وخرجت خديجة وهي تنظر إلى زوجها الصبور نظرات فيها حبّ ووداع ورحيل وَشيك.
وشعر أبو طالب هو الآخر أنّه يقترب من النهاية.. نهاية كلّ الحيوات؛ فأراد أن يطمئنّ على مصير محمّد ذِكرى الحبيب الراحل « عبدالله »، فدعا زعماء قريش وسادتها، حتّى إذا أحدقوا به من كلّ صوب وهو في فراش الموت، قال:
ـ لن تزالوا بخير ما سمعتم من محمّد واتّبعتم أمره، فأطيعوه تنالوا السعادة في دُنياكم وأُخراكم.
كانت الآذان صمّاء صمّاء لا تفقه شيئاًً من كلمات رجل على وشك الرحيل.
وتمرّ الأيّام ثقيلة قلقة، كان أبو طالب فيها يودّع دنياه الفانية، فجمع أفراد قبيلته حوله وأوصاهم بالدفاع عن محمّد ورسالته حتّى النهاية.
وأغمض أبو طالب عينيه، ودّع العالم المشحون بالحوادث ليرحل إلى عوالم بعيدة تزخر بالسعادة والسلام.
وشعر رسول الله بصرير العاصفة، لقد انهار السدّ العظيم؛ السدّ الذي حماه سِنينَ طويلة، وها هي السيول تنطلق من سلاسلها لتجتاح الحقل الأخضر.
نظر النبيّ صلّى الله عليه وآله إلى عمّه مُغمض العينَين؛ اشتعلت في أعماقه الذكريات، فتمتم بحزن:
ـ رحمك الله يا عمّ، ربّيتَني صغيراً، وكفلتَني يتيماً، ونصرتَني كبيراً.
تذكّر يوم كان صبياً في الثامنة، وكان أبوطالب قد استوى على ناقته يُريد الشام في تجارة، وتذكّر كلماته وهو يبكي:
ـ إلى مَن تَكِلني ولا أب لي ولا اُمّ ؟
ورأى عمّه يبكي.. يبكي بمرارة وهو يقول:
ـ والله لا أكِلك إلى غيري.
واعتنقه ليبكيا معاً. ثمّ أردفه على ناقته التي راحت تقطع الصحاري والبوادي.
تذكّر أيّام المحنة والحصار... وها هو الآن راقد في فراشه يتحدّث بلغة الصمت.. لغة لا يفهمها إلاّ الأنبياء.
وبكى رسول الله.. بكى أيّام الماضي والحاضر والمستقبل..

* * *

الحبيب الآخر
وتمرّ الايّام عصيبة، ويسدد القدر سهماً آخر إلى قلبٍ ذاق مرارة الصبر حتّى غدا كالشّهد، والصبر سلاح الأنبياء.
ودّعت خديجة زوجها.. رحلت بعيداً بعد أن خلّفت لديه فتاة لم تر الأرض لها نظيراً... فاطمة، لكأنها حوراء قادمة من السماء.
كبرت فاطمة في زمن الحرمان.. في زمن الحصار.. في زمن اليُتم، لهذا نشأت نحيلة القوام كغُصنٍ كسير. رسم القهر في عينيها الواسعتين لوحةً حزينة.. مُفعمة بالصمت.. تُفكّر.. تتأمّل وتنطوي على نفسها في استغراق يُشبه صلاة الأنبياء.
نشأت فاطمة في زمن الجَدب.. فغدا عودُها صلباً ضارباً في الأرض جذوراً بعيدة الغور. بدت أكبرَ من سنّها. لتنهض بالحمل.. لتملأ فراغاً هائلاً أحدثه رحيل أُمّها. نهضت سيّدة صغيرة.. أُمّا رؤوماً لوالدها الذي أضحى وحيداً.

* * *

العُروج
اشتدّت عذابات الأرض، تكاثفت الظلمات، وبدت النجوم البعيدة قلوباً تنبض على وَهَن، ورسول السماء وحيد في الأرض.. الأرض التي أُريدَ لها أن تتطهّر من أدران الشيطان، فآن لجبريل أن يهبط إلى الأرض، آن للروح المكين أن يغمر بشفّافيته مادّة الطبيعة.. يمسّها ويبثّ فيها روح القدس، كما آن للإنسان أن يعرج.. أن يلج الملكوت؛ من أجل هذا كان محمّد صلّى الله عليه وآله على ميعاد مع جبريل.. ومع البُراق.
وانطلق محمّد صلّى الله عليه وآله في رحلة مُثيرة، رحلة عبر الفضاء والزمن.
عرج رسول الله إلى السماوات يتخطّى مدارات الكواكب وآلاف النجوم.. يخترق جدران الزمن ليرى الآيات..
بدت الأرض صغيرة.. ضئيلة.. زيتونة.. مشحونة الحوادث..
طاف رسول الله عوالم الملكوت في رحلة مثيرة خارج حدود الزَّمَكان.. حتّى إذا عاد إلى كوكب الحوادث الأرض المثقلة بالخطايا، عاد أقوى من كلّ جبابرة الأرض.. عاد قوّياً كالزوبعة.. طاهراً كقطرات الندى.. ثابتاً كالجبال.. عاد إنساناً سماويّاً.. أو كائناً أرضياً مسّته السماء فإذا هو ينبوع نور.

* * *

إلى الطائف
وخرج رسول الله مع زيد بن حارثة إلى الطائف.. إلى قرية غير القرية الظالم أهلها..
يالَعذاب الأنبياء.. عشرة أيّام يدور في أحيائها يدعو الناس إلى النور القادم من السماوات... ولكن..
قهقه المَترَفون!
ـ أما وجد الله أحداً يرسله غيرك ؟!
ـ انظروا إلى هذا النبيّ!
قال رسول الله:
ـ اذن اكتُموا عَلَيّ لا تسمع بذلك قريش.
الخفافيش تكره النور.. تحقد على الشمس.. تشعر بالموت إذا أشرق فجر جديد، من أجل هذا حقد سادة الطائف.. أرادوا ان يُطفئوا الشموع.. النجومَ، الشمس والقمر.. أغرَوا سفهاءهم بهذا الرجل المكيّ، فإذا أزقّة الطائف تمطر حجارة رعناء. مضى رسول الله يتفادى الحجارة والسخرية، وكانت تصيبه في قدميه ورأسه.. حتّى وصل جنّة من كُروم وأعناب.
الظلال الوارفة.. والسكينة.. والصمت. دفعت بالرسول المكيّ أن يتفيّأ ظلال كرمةٍ في تلك الجنّة الأرضية.
كان البُستان لرجلَين من مكّة، هما: عُتبة وشَيبة، وكان معهما غلام نصراني اسمه عدّاس.
كانا ينظران إليه... يتأملاّن وربّما يتساءلان: لِم اختار محمّد طريق العذاب كل هذه السنين ؟!
اتّجه رسول السماء إلى السماء وقال بخشوع:
ـ اللهمّ إنّي أشكو إليك ضعفي.. وقلّةَ حيلتي، وهَوَاني على الناس.. يا أرحم الراحمين..
أنت ربُّ المستَضعَفين.. وأنت ربّي.
إلى مَن تَكِلني ؟ إلى بعيد يتجهّمني؛ أم إلى عدوّ ملّكتَه أمري ؟
إن لم يكن بكَ عَلَيّ غضبٌ فلا أُبالي.. ولكن عافيتك أوسعُ لي.
أعوذ بنور وجهك الذي أشرقَت له الظلمات، وصلُح عليه أمر الدنيا والآخرة.. من أن تُنزل بي غضبَك، أو يحلّ علَيّ سخطك.
قال أحدهما:
ـ احمل إليه قطفاً من هذا العنب.
حمل النصراني طبقاً من العنب ومضى إلى الرجل الشريد.
مدّ النبيّ يده وقال:
ـ بسم الله..
تساءل عَدّاس بشيء من الدهشة:
ـ إنّ هذا كلام ما يقوله أهل هذه البلدة.
قال رسول الله:
ـ مِن أي بلد أنت ؟
أجاب عداس:
ـ أنا نصراني من اهل « نَينوى »(9).
قال النبيّ صلّى الله عليه وآله:
ـ قرية الرجل الصالح يونس بن مَتّى.
تصاعدت دهشة عَدّاس:
ـ وما يدريك ما يونس بن مَتّى ؟!
ـ ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبيّ.
لو قُدّر للمرء أن يحضر ذلك اللقاء في ظلال تلك الكرمة لسمع دويّ الانهيارات في أعماق « عدّاس ». إنّه أمام رجل يتخطّى أعمدة القرون ليلتحم بقافلة الانبياء.. قافلة تسير على اسم الله.. من آدم إلى نوح إلى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمّد.
وعاد الشريد إلى مكّة؛ ليبلّغ رسالات الله إلى قرية هي أُمّ القرى.

* * *

يثرب
لم تكن مدينة يثرب التي تقع شمال مكّة وتفصلها مسافة 450 كيلومتراً سوى مجموعة من المنازل والمزارع والحصون تنهض في بقعة خصبة نسبياً، تبلغ مساحتها 32 كيلومتراً مربّعاً تقريباً.. تحيط بها التلال و « الحرّات »(10).

يقع شمالَها جبلٌ صغير هو جبل أُحد، وجبل « عير » في الجنوب الغربي منها، كما ينبسط بَقيع الفرقد في شرقها، وترقد جنوبَها قريةٌ صغيرة هي قرية « قباء » لا تبعد عنها سوى ثلاثة كيلومترات.
كان العمالقة أوّل من سكنها فبنوا فيها الحصون وزرعوا النخيل، ثمّ نزح إليها فيما بعد « بَنو قَيلة » وهم تجمّع قبليّ يضم قبيلتَي الأَوس والخزرج. ويعود مصدر هذا النزوح إلى اليمن، وبالتحديد إلى القبائل العربية في الجنوب.
وكانت قبيلتا « قُرَيظة » و « بني النَّضير » قد سبقتا هجرة الأوس والخزرج إلى يثرب، حيث سكنتا المنطقة الخصبة من تلك الأرض، وهناك قبيلة يهودية ثالثة أقلّ شأناً هي قبيلة بنو قَيْنقاع.
وقد كان لليهود في الجزيرة العربية نفوذ قويّ يستند إلى كيانهم السياسي في الدولة الحِمْيَرية الثانية في اليمن، وما لبث هذا النفوذ أن تضاءل بعد الغزو الحَبَشيّ لليمن والقضاء على الدولة الحِميرية، فيما ظل نفوذهم الاقتصادي على قوّته.
ظلّت يثرب تعيش بسلام وصفاء مدّة طويلةً نسبياً إلى أن دبّ الخِلاف بين قبيلتي الأَوس والخَزْرَج. وكان اليهود يُذْكُون روح التنافس بين الإخوة، إلى أن تحوّلت العلاقة إلى عِداء سافر وتَناحُر، ثم اشتعال الحروب و « الأيّام »(11).
وأقصى ما استفاده عرب يثرب من اليهود، هو تقبّلهم لفكرة النبوّة ورسالات السماء، إضافة إلى ذلك فقد كان اليهود أنفسهم يبشّرون ويُنذرون جيرانهم بظهور نبيّ جديد قد أطلّ زمانه؛ وهذا ما ساعد على انهيار الوثنيّة بسرعة في هذه المدينة.
وفي هذه الظروف بدأ أوّل اتّصال لعرب يثرب بسيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله.

* * *

وادي العَقَبة
كان رسول صلّى الله عليه وآله ينشط ببثّ دعوته في الحجّ حيث القبائل العربية تتدفّق صوب مكّة.
في وادي العَقَبة كان أول لقاء بين رسول الله وبين أفراد من قبيلة الخزرج.. كانوا ستة أشخاص.. تحمّسوا جميعاً للدين الجديد، ورأوا في سيدنا محمّد صلّى الله عليه وآله الشخصيّة الوحيدة التي يمكن أن تُنقذ مدينتهم من أخطار النزاع القَبَليّ، ومشاعر الثأر المتأججة.
وانطلق اليثربيّون إلى مدينتهم يبشّرون برسالة السماء، وأضحى اسم محمّد صلّى الله عليه وآله على الشفاه.
وفي موسم الحجّ التالي عاد خمسة منهم، ومعهم سبعة آخرون فيهم ثلاثة من قبيلة الأَوْس.
وفي وادي العقبة أيضاً التقى النبيّ صلّى الله عليه وآله الوفد اليثربيّ وعرض على أفراده دعوة السماء، وقد أسفر اللقاء عن إسلام أفراد الوفد، ثمّ بيعتهم على مبادئ الدين الجديد، وقد عُرفت هذه البيعة ببيعة النساء(12).
ورأى النبيّ صلّى الله عليه وآله أن يُرسل مع الوفد رجلاً من أصحابه هو مصعب بن عُمَير الذي سمّاه مصعب الخير.
ولقد كان لشخصيّة هذا الصحابي وحماسه وأدبه وأُسلوبه الهادئ الرصين، الأثرُ الكبير في انتشار الإسلام في منازل يثرب، فلم يبق منزل فيها إلاّ واعتنق أحد أفراده الدين الجديد.
حتّى إذا حلّ موسم الحجّ، إذا عشرات الرجال والنساء ينطلقون إلى مكّة للقاء الرسول.
رتّب مصعب موعد اللقاء في ظروف بالغة السرّية، فقد كانت قريش تراقب بدقّة تحرّكات النبيّ صلّى الله عليه وآله، وتنظر بعين القلق إلى لقاءاته مع القبائل العربية الوافدة للحجّ.
غمر الليل مكّة وضواحيها، وخَيّم صمت مهيب، وكان على رجال يثرب الذين أدَّوا مناسك الحجّ أن يتظاهروا بالنوم لكي لا يشعر أحد بما عزموا عليه.
انتصف الليل ونام الجميع، وانسلّ المسلمون فُرادى وجماعات، فيما ظلّ مُشركو يثرب يَغُطّون في نوم عميق.
وفي وادي العقبة اجتمع ستّة وسبعون شخصاً، منهم ثلاثة وسبعون رجلاً وثلاث نساء.
وبعد انتظار قصير جاء النبيّ صلّى الله عليه وآله ومعه عمّه العباس بن عبدالمطلب.
ولقد وجد رسول الله في أهل يثرب حماساً للإسلام فريداً، وكانوا ينتظرون بفارغ الصبر مراسم البيعة الخالدة لآخر الأنبياء في التاريخ.
وفي جوّ مثير تلا رسول الله آيات من القرآن الكريم، ثمّ قال:
ـ أُبايعُكم على أن تمنعوني ما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم.
وهذا أقصى ما يُمكن التعبير عنه في الدفاع حتّى الموت.
وتقدم رجال يثرب ونساؤها للبيعة، ليكون هذا اللقاء في تلك الليلة مُنعطَفاً مهمّاً في تاريخ الإسلام.
عاد أهل يثرب إلى مضاجعهم، لم يشعر بهم أحد، وانطوت تلك الليلة المثيرة بسلام.

* * *

الهجرة
رافقت الهجرة الحياةَ البشرية منذ فجر التاريخ وحتّى يومنا هذا، وكانت وما تزال وستبقى ظاهرةً اجتماعية لها ما يبرّرها أبداً، وهي إذا بدت مجرّد احتجاجٍ هادئ ضدّ الظلم والقهر، فإنّها تُعدّ حَدَثاً كبيراً جداً، وبدايةً لفصل جديد في حياة الإنسان أو الشعب المهاجر.
لقد تصاعد الظلم في مكّة حتّى لم يَعُد محتَملاً، وأضحت حياة تلك المجموعة البشرية التي آمنت برسالة السماء أمراً لا يُطاق، وكان رسول الله يسعى جاهداً في صُنع مستقبلٍ أفضل لأتباعه، فكانت الهجرة إلى الحبشة حلاًّ مؤقّتاً إلى أن تمّ لِقاء العقبة.
ففي غمرة الظلام والوادي القريب من مكّة.. انفتحت كُوّة للأمل والخلاص، عاد النبيّ المطارَد إلى قريته يُبشِّر أتباعه المقهورين قائلاً:
ـ إنّ الله جعل لكم إخواناً وداراً تأنسون بها.
وهكذا بدأ فصل جديد في حياة الإسلام، وشهدت تلك الليالي المريرة المُفعَمة بالخوف والقلق والأمل رجالاً يفرّون من وطنهم.. من الأرض التي أنجبَتْهم وقضوا فيها أيّام صباهم. ووقفت قريش بكلّ جبروتها عاجزة أمام هذه الظاهرة الخطيرة، وبدأ المجتمع المكيّ يهتزّ بشدّة، وكانت الآلهة والمعادلات والمصالح تتأرجح بعُنف.

* * *

المؤامرة
ورأى أبو جهل وأبو سفيان وأُميّة وكلّ الرؤوس القرشية التي ساءها ظهور الإسلام، أنّ أفضل الحلول في هذه الظروف هو تصفية محمّد والتخلّص منه.
وإذا كان للتكتّلات القَبَلية، وثقل بني هاشم الاجتماعي دوره في حماية رسول الله طَوال هذه السنين من القتل، فإن إشراك القبائل في اغتياله سيجعل من بني هاشم عاجزين عن مواجهتها، ثمّ التخلّي عن فِكرة الثأر.
وهكذا سوّلت لأبي جهل نفسُه ووُلدت المؤامرة.
وكانت المؤامرة من الخطورة بمكان أن هبط جبريل من السماء:

ـ « وإذ يَمْكُرُ بِكَ الّذين كَفَروا لِيُثْبِتوك أو يَقتُلوك أو يُخرِجُوك ويَمْكُرون ويَمْكُر اللهُ واللهُ خَيْرُ الماكرين ».

غمر الليل مكّة.. ملأ أزقّتها بظلمة ثقيلة، وبدت النجوم وهي تومض من بعيد قلوباً خائفة.
كان أبو جهل يعبّ خمرته منتشياً بفكرته.. ستبقى مكّة تتحدّث في أنديتها وتُشيد بفِطنته.

* * *

الفداء
وفي تلك اللحظات المثيرة والمؤامرةُ على وشك التنفيذ، دخل فتى الإسلام عليّ أبواب التاريخ، في واحدة من أكثر قصص الفداء إثارةً ودرامية.
أن يصمد الرجال في المعارك يقاتلون حتّى النَّفَس الأخير، فتلك شجاعة فريدة تدعو إلى الإعجاب.. ولكن أن يقدّم المرء نفسَه للموت تتخطّفه سيوفٌ وخناجر، فهذا ما لا يمكن أن تستوعبه أبجديّةٌ ما، مهما بلغت من دقّة التعبير وأداء المعنى.
همس عليّ وهو يُصغي إلى حديث رجلٍ عاش معه أكثر من عشرين سنة:
ـ أوَ تَسلَم يا رسول الله إن فديتُك بنفسي ؟
ـ نعم، بذلك وعدني ربّي.
كان عليّ حزيناً، فمكّة تلك القرية الظالم أهلُها تتآمر على قتل انسانٍ بعثته السماءُ لخلاص الأرض، ولكنّ حزنه سُرعان ما تحوّل إلى فرحة كبرى.
تقدّم الفتى بخُطى هادئة إلى فراش النبيّ صلّى الله عليه وآله والْتَحَف ببُردته ينتظر السيوف التي ستمزّقه.. وستتدفّق دماؤه نقيّة طاهرة ترسم فوق الثرى قصّة رائعة من قصص الفداء.. ورقد عليّ في فِراش النبي، فيما انطلق الشريد صوب الجنوب قاصداً يثرب.

* * *

الطريق إلى يثرب
كانت خطّة النبيّ صلّى الله عليه وآله أن يتوجّه جنوباً، نحو جبل ثور؛ ليختبئ فيه عدّة أيّام ريثما تُعَدّ وسائط النقل وتيأس قريش من إلقاء القبض عليه، كما انّ مبيت عليّ في فراشه قد أسهم كثيراً في تأخير اكتشاف المتآمرين لنبأ هجرته.
وفي ظروفٍ بالغة السرّية اشترى عليّ عليه السّلام بعيرَين: للنبي صلّى الله عليه وآله وصاحبه أبي بكر؛ كما تمّ الاتّفاق مع دليل الصحراء عبدالله بن أُريقط. وبالرغم من بقاء الدليل على وثنيّته، فقد كان رجلاً أميناً وثق به النبيّ.
استيقظت قريش على دويّ المفاجأة، وتصرّف زعماؤها بهستيريّة عنيفة، فقد انطلقت فرسان الدوريّات يبحثون في الأودية، كما وُضعت جوائز مُغرية لمن يدلّ على الشريد أو يُدلي بمعلومات تساعد في القبض عليه. وبالرغم من إدراكهم بأنّ لدى بعض الأفراد معلومات مهمّة، لكنهم فشلوا في انتزاعها.
لقد كانت قريش واثقة تماماً من إلقاء القبض على محمّد، فقد اهتدى خُبراء الأثر إلى منطقة تحوم حولها الشكوك، بل إنّهم وصلوا إلى جبل ثور حيث اختبأ صلّى الله عليه وآله وصاحبه في أحد أغواره.
وهنا تدخّلت السماء لتحمي آخر الرسالات في التاريخ.
تسلّق أحدُهم إلى الغار ليرى ما فيه ومَن فيه، ثمّ سرعان ما عاد إلى أصحابه.
ـ ماذا هناك ؟
ـ لا شيء.
ـ والغار ؟
ـ رأيت في فم الغار نسيج العنكبوت، وأحسب أنها نَسَجتْه قبل ميلاد محمّد... ورأيت عُشّاً فيه حمامتان وأغصاناً متشابكة لا يمكن للمرء أن يدخل الغار إلاّ بإزالتها.
ـ إذن لم يدخله أحد.
ـ نعم لم يصله إنسان.
وكان رسول الله يُصغي إلى الحوار، فهتف في أعماق قلبه:
ـ الحمد لله. وغمرت السكينة قلبه.

* * *

الرحلة
وفي الموعد المقرر جاء الدليل يقود بعيرَين، وذلك بعد ثلاثة أيّام قضاها رسول الله في الغار.
تقع يثرب في الشمال من مكّة، ومع هذا فقد اتجه رسول الله جنوباً إلى جبل ثور إمعاناً في تغطية رحلته بالسرّية الكاملة.
وكان على الدليل أن يتّجه نحو ساحل البحر الأحمر وسلوك طريق بعيد عن طريق القوافل.
كانت رحلة شاقّة.. وتمرّ سبعة أيّام والنبي يقطع سهول تِهامة في صيف ملتهب، وفي طريق بالغة الصعوبة، حتّى إذا بدت مضارب بني سَهم، تنفّس النبيُّ الصُّعَداء، فقد مرّ الخطر ولن تستطيع قريش أن تفعل شيئاً.
في الثاني عشر من شهر ربيع الأول وصل قرية قُبا، في ضواحي يثرب.
وفي قُبا أمضى صلّى الله عليه وآله أربعة أيّام مترقّباً وصول ابن عمّه عليّ بن أبي طالب.
وعندما حلّ يوم الجمعة يمّم الرسول صلّى الله عليه وآله وجهَه شَطر المدينة وكان آلاف السكان ينتظرون طلعته البهية.
في تلك اللحظات المهيبة عندما تُغيّر المدن أسماءها(13)، وفي يوم 16 ربيع الاول الموافق 20 / أيلول سنة 622م وصل النبي صلّى الله عليه وآله يثرب في لحظة تاريخية خالدة، فلقد هبّ أهل المدينة عن بِكرة أبيهم لاستقبال آخر الأنبياء في التاريخ.
وخرجت فتيات المدينة يُنشدن أناشيد الفرح، وهنّ يلمحن من بعيد ركب المُهاجِر يجتاز ثنيّات الوداع.
وفي تلك اللحظات المفعمة بمشاعر الأمل والفرحة واللقاء بدأ التاريخ الهجريّ، وتبلورت نواة المجتمع الإسلام.
فلم تمض أيّام قلائل حتّى كتب النبيّ صلّى الله عليه وآله أوّل وثيقة تُعلن ولادة الأمّة الإسلامية ككيان مستقلّ له هويّة:

بسم الله الرحمن الرحيم

« هذا كتابٌ من محمّد النبيّ نبيّ المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومَن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:

انّهم أُمّة واحدة من دون الناس.. »(14).

ولقد تضمّن الإعلانُ بُنوداً غايةً في الدقّة والنظام، كشفت عن شخصية الرسول قائداً وزعيماً لدولة كبيرة فيما بعد.
وعندما تم الانتهاء من بناء المسجد في قلب المدينة، أصغى المجتمع الجديد لصوتٍ ينساب كنهر هادئ.. صوت عذب يدعو المسلمين إلى الصلاة والتوجّه نحو الله الخالق الباري الكريم.
صوت يعلن أن لا أكبر من الله شيء، وأنّه وحده لا إله سواه، ولا معبود غيره. وأن الصلاة هي لحظة الاتصال للشكر على ما أنعم، وأن الحمد له والثناء عليه وحده.

* * *

الهاجس اليهودي
كان اليهود من سكان المدينة وخارجها ينظرون بقلق إلى ما يجري في يثرب، وهم يرون محمّداً ذلك الرجل الشريد الذي وصل المدينة على قَدَر زعيماً كبيراً وقائداً فذّاً يقود أتباعه نحو مستقبل مشرق.
بدأ اليهود مكرَهم لتمزيق الصفاء الروحي، والتشويش على عقائد المجتمع الجديد، فشنّوا حرباً فكريّة لا هَوادة فيها.
إنّ الطبيعة اليهودية طبيعة معقّدة، لها قابليّة عجيبة على التلوّن بمختلف الألوان، والظهور في عدّة أشكال، فيما يظل الجوهر فاسداً لا أمل فيه؛ ففي تلك الظروف تظاهر بعض أحبارهم باعتناق الإسلام من أجل التغلغل في المجتمع الإسلامي وتخريبه من الداخل، كما وظّفوا المنافقين، وهم تلك الشريحة من سكان يثرب الذين وجدوا أنفسهم يعتنقون الإسلام لأسباب بعيدة كلّ البُعد عن روح الإيمان وطمأنينة القلب.
وفي تلك الفترة طرح اليهود ـ مباشرة أو من وراء حجاب ـ أسئلة عن طبيعة الخالق، وعن الروح.
وكان وحي السماء يؤسّس العقيدة الجديدة السامية مُنزّهةً عمّا لحق الرسالات الغابرة من زيف وتحريف.
وراح المجتمع الوليد يردد:
ـ قُلْ هُوَ اللهُ أحّد. اللهُ الصَّمَد.
ـ ويَسأَلوُنَكَ عن الرُّوح قُلِ الرُّوحُ مِن أمرِ رَبّي.
وكان من المفروض أن يرسم الموقف اليهودي الرافض للدِين الجديد علامة استفهام حول الإسلام، نظراً للثقل الفكري والديني الذي يتمتّع اليهود به، غير أنّ التاريخ الحافل بالوثائق والذي يدين اليهود ويشهد بفساد عقائدهم وانحرافهم وقتلهم عشرات الأنبياء، والأسلوب القرآنيّ في مواجهتهم قد أدّى إلى تهميشهم، فما لبث المجتمع الإسلامي أن راح ينظر إليهم بعين الشكّ والريبة.
ولقد بلغ التعنُّت اليهودي ذِروته عندما سادت روح من الخوف بسطاءَ اليهود من الذين كانوا يودّون اعتناق الإسلام من كل قلوبهم ولكنهم كانوا يخشون خطر الاغتيال.
وفي تلك الظروف الصعبة ـ بين مكر اليهود وخُبث المنافقين ـ أثبت المجتمع الإسلامي صلابته وأعلن هويّته واضحة جليّة، وهكذا مرّ عام.

* * *

__________________
[align=center]وما من كاتب الا سيفنى ***ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غيرشيئ*** يسرك في القيامة أن تـراه [/align]

عاشـ sanabis ـق غير متصل  

قديم 26-04-05, 02:21 PM   #3

عاشـ sanabis ـق
عضو مشارك  







رايق

مشاركة: ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي إسمه أحمد


الجهاد المسلح
كان من الطبيعي أن يفكّر زعماء قريش ـ ومن خلال حسّهم التجاري ـ بشنّ حرب اقتصادية على يثرب واستخدام اسلوب التجويع لتركيع خصمهم.
ومن هنا حاصرت مكّة طرق القوافل المتّجهة نحو الشمال، وصار من المتعذّر وصول الأغذية إلى المدينة المنوّرة، وبالرغم من خصوبة الأراضي المحيطة بالمدينة وامتداد الحقول والمزارع فيها إلى مساحات شاسعة، إلاّ أنّ الحصار قد فعل فِعله فارتفعت أسعار الغذاء، لعب اليهود ـ وهم خبراء في التفكير الاقتصادي ـ دوراً في التلاعب بالأسعار من خلال الاحتكار؛ غير أنّ المجتمع الإسلامي واجه ذلك بروح من الصبر والتحمّل، وكانت استجابتهم لهذا التحدي إيجابية، فأصبحت لهم سوقهم الإسلاميّة الخاصّة بهم.
ولم يكن للنبيّ صلّى الله عليه وآله أن يقف مكتوف الأيدي أزاء ما يجري حوله من تآمر وأساليب غاية في الدناءة والخبث، فكان ينتظر أمر السماء.

1 ـ كنيسة فخمة بناها أبرهة في اليمن في محاولة لتوجيه أنظار العرب إليها بدل الكعبة.
2 ـ في قصة النَّذْر المعروفة.
3 ـ وُلد سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله في شهر ربيع الأول سنة 570 م.
4 ـ في الطريق بين مكّة والمدينة، تبعد عن المدينة ثلاثة وعشرون ميلاً.
5 ـ معارك نشبت بين قبيلتي كنانة وقيس في شهر رجب وهو من الأشهر الحُرُم، وسُميّت بالفِجار لأنّها انتهكت حرمة الشهر الحرام.
6 ـ من أضوأ نساء العرب كما ورد في كتب السيرة، وفدت مع أبيها إلى مكّة للحجّ فاختطفها منبه بن الحجاج، ثمّ أُجبر على تسليمها قبل أن يمسها بسوء.
7 ـ يساوي الميل العربي 2 كيلومتر، بينما يعادل الميل الذي يُستخدم في قياس المسافة حالياً 600/1 كيلومتر.
8 ـ ابن عم خديجة، اعتنق النصرانيّة في الجاهلية، وقرأ الكتب، وسمع من أهل التوراة والإنجيل، فَقَد بصره في شيخوخته.
9 ـ مدينة قديمة على نهر دجلة، كانت عاصمة للآشوريين، نهضت على آثارها مدينة الموصل العراقية.
10 ـ الحرّة: أرض حصباء لا تصلح للزراعة.
11 ـ كان العرب في الجاهلية يطلقون على معاركهم اسم الأيّام.
12 ـ سُمّيت بذلك لأن بُنودها خلت من مسائل الدفاع والقتال، واقتصرت على وصايا أخلاقية، أو لوجود عفراء بنت عبيد التي تُعد أول امرأة بايعت رسول الله صلّى الله عليه وآله في تاريخ الإسلام.
13 ـ اشتهرت يثرب فيما بعد باسم المدينة المنورة.
14 ـ سيرة ابن هشام.

__________________
[align=center]وما من كاتب الا سيفنى ***ويبقي الدهر ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غيرشيئ*** يسرك في القيامة أن تـراه [/align]

عاشـ sanabis ـق غير متصل  

قديم 26-04-05, 03:10 PM   #4

شروفه
عضو شرف

 
الصورة الرمزية شروفه  






رايق

مشاركة: ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي إسمه أحمد


اللهُمَّ صلِّ على محمّد و آلٍ محمد

كل عام وانتم بخير ..


منتدي تاروت الثقافي
بستان الفكر والمعرفة

شروفه غير متصل  

قديم 26-04-05, 04:14 PM   #5

ملكة الحزن
عضو شرف

 
الصورة الرمزية ملكة الحزن  







رايق

مشاركة: ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي إسمه أحمد


السلام عليكم ورحمة الله و بركاته

لكم البشرى بميلاد النور
و شكراً لكم اخي على السيرة الشريفة

أختكم ملكة

__________________
[flash=http://www.tarout.info/montada/uploaded/maleekah.swf]WIDTH=370 HEIGHT=200[/flash]
[align=center]يقولون
إني كسرت رخامة قبري.. و هذا صحيح
و إني ذبحت خفافيش عصري .. و هذا صحيح
و إني اقتلعت جذور النفاق بشعري .. و حطمت عصر الصفيح
فإن جرحوني ..
فأجمل ما في الوجود غزال جريح
[/align]

ملكة الحزن غير متصل  

قديم 26-04-05, 08:39 PM   #6

الحنان الفاطمي
عضو شرف

 
الصورة الرمزية الحنان الفاطمي  







رايق

مشاركة: ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي إسمه أحمد


اللهُمَّ صلِّ على محمّد و آلٍ محمد

كل عام وانتم بخير ..

الحنان الفاطمي غير متصل  

قديم 10-11-05, 04:14 AM   #7

يافاطمة الزهراء
عضو نشيط

 
الصورة الرمزية يافاطمة الزهراء  







رايق

مشاركة: ومُبشِّراً برَسولٍ يأتي مِن بعدي إسمه أحمد


متباركين بها الليلة المباركة اعاذها الله علينا بالبركة ..
[web]http://www.dahshan.net/nuke/modules.php?name=كلمة ممنوعةكلمة ممنوعةكلمة ممنوعةكلمة ممنوعةكلمة ممنوعةكلمة ممنوعةكلمة ممنوعة&pa=showpage&pid=43[/web]

نسألكم الدعاء...

__________________




اللهم صلي على محمد و آل محمد



يـ،ـا فـاطــ،،ــمـــة الـ،،،ـزهــــ،،ــراء


يافاطمة الزهراء غير متصل  

 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

قوانين وضوابط المنتدى
الانتقال السريع

توثيق المعلومة ونسبتها إلى مصدرها أمر ضروري لحفظ حقوق الآخرين
المنتدى يستخدم برنامج الفريق الأمني للحماية
مدونة نضال التقنية نسخ أحتياطي يومي للمنتدى TESTED DAILY فحص يومي ضد الإختراق المنتدى الرسمي لسيارة Cx-9
.:: جميع الحقوق محفوظة 2023 م ::.
جميع تواقيت المنتدى بتوقيت جزيرة تاروت 05:02 AM.


المواضيع المطروحة في المنتدى لا تعبر بالضرورة عن الرأي الرسمي للمنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك
 


Powered by: vBulletin Version 3.8.11
Copyright © 2013-2019 www.tarout.info
Jelsoft Enterprises Limited