الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين
سيداتي سادتي
كانت شمس هذا اليوم - الأحد - تنهض من افقها مسرعة على الكائنات , والوقت صيف , والنهار قد جاوز منتصفه بساعة على الأقل , وبيوت القرية قد استيقطت بكل ما فيها , حتى الطيور والمواشي , وبدت الحركة تدب بكل ثقلها على الأرض , وكنت - أنا من بين النائمين الذين استيقطوا للتو من مفارشهم .
وذهبت الى مكتبي - في الشركة - والتقيت بها , وكانت صديقتي , كما أنتم أصدقائي ومعارفي , ولها الفضل الكبير - بعد الله - في صقل موهبتي و سطوع نجمي في افق الأدب , كما أرجو الا يذهب تفكيركم بعيداً , ويهمني - في هذا السياق - أن اشارككم هذا البوح من الكلمات , علّني استمر في هذا الانتاج الأدبي .
وكانت صديقتي .. الحلقة الأولى
كانت صديقتي عندما التقيت بها أول مرة في أروقة الشركة التي أعمل بها كمدير أول لعمليات التخطيط المدني , أول ما راعني وجهها القمري الجميل , وعيناها الواسعتان اللتان تحتفظان بالكثير من أسرار الدنيا , وبين الأهداب والجفون يختبأ السّر المسحور بالكحل العربي , لمعان جبينها - المظلل بالحجاب - المشّع بخيوط الشمس النرجسية يتماشى وطبيعة المكان الذي جمعنا أول مرة , تناغيت مع ابتساماتها, وترحيباتها , وضحكاتها التي احتفظت بالطابع القروي وأجبرتني بأن أتعوّد عليها , وحفظت نبراتهما وهمساتها عن ظهر قلب , حينها تذكرت – فتاوى – والدي التي تحّرم علينا محادثة الفتيات وخصوصاً إذا كانت الفتاة من خارج محيطنا الأسري , فإنه يمنع علينا منعاً تاماً محادثتهن .
القلب ينبض بالمفاجأة , وفرائصي تهتز مع ارتعاشات الجفون , وخاطري – يسّرني - أن أبوح لها بما في مكنوني من آهات كانت عالقة قبل مجيئها الى محيطي , بلاغتها وحسن تعبيرها يسّمراني في بحبوحة من التفكير العميق , ولم أعي بما يدور حولي من قعقات وأصوات خارجة من بهو المكتب الا بعد أن ندستني ابنت أختي .. وقدمتها لي لأتعرف عليها أكثر , حينها خرجت من خجلي الذي أحمل في طياته الكثير من الإنطواء وأبوح لها بكل ما تجود به قريحتي من أجوبة , من أول وهلة أحسست أنني في عالم غير العالم الذي أعيشه , لأنني وطوال سنوات عمري لم التقي بفتاة تسامرني , وتنهال عليّ بالأسئلة الجريئة كالتي أسمعها الآن منها , وفوق هذا كله يضغى عليها الحس الجمالي أكثر من بلاغتها , في أول وهلة أحسست أنها مخلوق غريب قادم من الأطباق الطائرة , فتاة جميلة , خفيفة الروح والظل , حلوة الطالع , تختلف عن كل البنات بالطيبة وحسن الخلق , وهي واقفة بجوار طاولتي أخذت تردد هذه الكلمات بمعية ابنت أختي .. ياريت عندي خال مثل خالك – حنون , لطيف , يرتاح له الخاطر , تنفتح له النفس , يسمع ويصغي لطلباتكِ , وتقدري أن تبوحي له بكل مايجول في خاطرك من أسرار , الصراحة أتمنى لو أملك شخصية قوية مثل شخصية خالك .. لكن شوفي هاه .. لا تغارين .. أني أحب أمزح .. لكنني جادة بأن أناديه – خالي – هذا إذا ما عنده مانع , الصراحة ابنت أختي غارت بعض الشي واشتكت لي , وما نعت في بادىء الأمر , لكن الأحوال تعدلت فيما بعد , وسارت الأمور على رغبتها .
نافذتها تطل على مكتبي , وكلما تحركت في الدوران سرقتني النظرات اليها , وبمجرد أن أراها ترفع رأسها وترد التحية وتقف احتراماً في بعض الأحيان , وضحكتها القروية المعهودة تستوقفني بمذاق مخلوط من مذاق الكرز حتى تعودت عليها وأدمجتها في مذكراتي الشخصية لتكون من فواصل التاريخ الذي يجمع الشتات بعد الممات , وتخاطبنا في الهاتف للسؤال عن صحتي وصحتها , والسر المستودع في الضمير لم يبدي ارتياحه التام بما يدورمن مقابلات خلوية ومكالمات هاتفية خلف الكواليس , ولكنني أراها فتاة محافظة , تخاف على نفسها من هبة الهواء , تخاف من النظرات الجارحة , وتخاف من الهمسات التي تأتي دائما من خلف الطاولات , من الموظفين والموظفات , ولكنها أصّرت أن تسايرني , وأن تغمض عينيها عن كل هذه المنغصات , وبادرتني بالحديث , وأصّرت ايضاً أن تسميني خالها , وقبلت التحدي الصادر من عواطف ابنت اختي , ولكنها تنقل لي التحيات الصادرة منها - من ابنت اختي - بالهاتف وتخاطبها بما يدور بيننا بالدقيقة والثانية , ولهذا أنا مطمئن على سرية الحديث .
التقيت بها , وجسمي يرتعش ارتعاشة الخوف والمفاجئة , ويرسم في طريقي أكواماً من الأحجار الكبيرة التي يمكنني أن اتعثر فيها – لو اشتكاني أحداً الى والدي المحافظ دائماً على كيان الأسرة , والذي يحمل الكثير من الفتاوى التي تحّرم علينا مخاطبة الفتيات – ولكنني كلما نظرت اليها تبددت الغيوم – السوداء الحالكة - الجائمة على صدري , وضربت بفتاوى والدي عرض الحائط , واكتفينا بالاتصال عبر البريد اللاكتروني , وتبادلنا الأحاسيس والأفكار التي من شأنها تقريب العلاقة الجديدة .
حملنا في رسائلنا وحي الأمل , وخلطناها بحثيثات من الألم والشجون , وعرفت عنها الكثير .. بيتها المركون في الزاوية الشرقية من القرية , يطل بكل ثقة وأمل على بيوتاتها ويحيهم كل صباح ومساء , زرائب وحطائر والدها التي انزوت بها القرية في الشرق البعيد والتي تفصلها انهار وجداول القرية عن البيوت ترويها من الحليب البقري الطازج , وعرفت ناسها , وقريتها , ومستوى معيشتها وأملها وطموحها في الحياة , وهي كذلك حملت عني الكثير من النظرة الثاقبة , وأصّرت على المتابعة في الصداقة الحميمة التي ربطتني بها خمسة أعوام – ولازالنا- نستشف منها الكثير من التقارب الذاتي , وابتعدت ابنت اختي عن محيط صداقتنا , وابتدت رسائلنا تلوح في افق البريد تحمل الكثير من نسمات المودة , وهذه أولى رسائلنا .
الى عزيزتي .. رقية
أنتِ كتاب يضم أحلى وأجمل الصفات ، أنتِ عنوان للحب والوفاء ، مدرسة للتضحية والايثار ، معلمة أصول التربية ، الأمل للمتعب والسعادة للحزين ، الحنان كل الحنان وأنتِ القلب العطوف ، المعدن الأصيل الذي لايتغير ، العيون الساهرة التي افتقدها يوم الأربعين في مسرحية بني جمرة حيث كان دور رقية (ع ) دور بارز في مسميات الركب الحزين ، أنتِ الدواء للعليل والصدر الحنون الذي لايكل من أخطاء الأخرين ، فكيف تملكين كل هذه الصفات ولا أحبك ِ ؟!.
عذب المعاني .. رقية
أرى وجهكِ ملساء متألقة يغمرها الأرتياح ، وكأن ارهاق الحياة العملية لاسلطة له عليكِ ، ولكنني افتقدت هذه الأيام الى صوتكِ الحنون الذي يبعث على نفسي الأرتياح ، أتمنى أن تكوني بخير وسعادة .
خالك .. ساجد
والبقية تأتي في الجزء الثاني من القصة المطّولة
المعتوق