أعظم الله لنا ولكم الأجر أختي نور
شهادة هاني بن عروة ومسلم بن عقيل عليهما السلام
فعندما أتت كتب أهل العراق الى المولى ابي عبد الله عليه السلام, دعا بمسلم بن عقيل وأطلعه على الحال ، وكتب معه جواب كتبهم يعدهم بالوصول إليهم ويقول لهم ما معناه : « قد نفذت إليكم ابن عمي مسلم ابن عقيل ليعرفني ما أنتم عليه من الرأي ».
فسار مسلم بالكتاب حتى دخل إلى الكوفة ، فلما وقفوا على كتابه كثر استبشارهم بإتيانه إليهم ، ثم أنزلوه في دار المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، وصارت الشيعة تختلف إليه.
فلما اجتمع إليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين عليه السلام وهم يبكون ، حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً.
وكتب عبدالله بن مسلم الباهلي وعمارة بن الوليد وعمر بن سعد إلى يزيد يخبرونه بأمر مسلم بن عقيل ويشيرون عليه بصرف النعمان بن بشير وولاية غيره.
فكتب يزيد إلى عبيدالله بن زياد ـ وكان والياً على البصرة ـ بأنه قد ولاه الكوفة وضمها إليه ، ويعرفه أمر مسلم بن عقيل وأمر الحسين عليه السلام ، ويشدد عليه في تحصيل مسلم وقتله ، فتأهب عبيدالله للمسير إلى الكوفة.
وكان الحسين عليه السلام قد كتب إلى جماعة من أشراف البصرة كتاباً مع مولى له اسمه سليمان ويكنى أبا رزين يدعوهم فيه إلى نصرته ولزوم طاعته ، منهم يزيد بن مسعود النهشلي والمنذر بن الجارود العبدي.
فجمع يزيد بن مسعود بني تميم وبني حنظلة وبني سعد ، فلما حضروا قال : يا بني تميم كيف ترون موضعي منكم وحسبي فيكم ؟
فقالوا : بخٍّ بخٍّ ، أنت والله فقرة الظهر ورأس الفخر ، حللت في الشرف وسطاً ، وتقدمت فيه فرطاً.
قال : فإني قد جمعتكم لأمرٍ أريد أن أشاوركم فيه وأستعين بكم عليه.
فقالوا : والله إنما نمنحك النصيحة ونجهد لك الرأي ، فقل نسمع .
فقال : إن معاوية قد مات ، فأهون به والله هالكاً ومفقوداً ، ألا وإنه قد انكسر باب الجور والإثم ، وتضعضعت أركان الظلم ، وقد كان أحدث بيعةً عقد بها أمراً وظن أنه قد أحكمه ، وهيهات والذي أراد ، اجتهد والله ففشل ، وشاور فخذل ، وقد قام ابنه يزيد ـ شارب الخمور ورأس الفجور ـ يدعي الخلافة على المسلمين ويتأمر عليهم بغير رضىً منهم ، مع قصر حلمٍ وقلة علمٍ ، لا يعرف من الحق موطئ قدمه ، فأقسم بالله قسماً مبروراً لجهاده على الدين أفضل من جهاد المشركين.
وهذا الحسين بن علي ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، ذو الشرف الأصيل والرأي الأثيل ، له فضلٌ لا يوصف وعلمٌ لا ينزف ، وهو أولى بهذا الأمر ، لسابقته وسنه وقدمه وقرابته ، يعطف على الصغير ويحنو على الكبير ، فأكرم به راعي رعية وإمام قوم ، وجبت لله به الحجة وبلغت به الموعظة.
فلا تعشوا عن نور الحق ولا تسكعوا في وهدة الباطل ، فقد كان صخر ابن قيس قد انخذل بكم يوم الجمل ، فاغسلوها بخروجكم إلى ابن رسول الله صلى الله عليه وآله ونصرته ، والله لا يقصر أحدٌ عن نصرته إلا أورثه الله الذل في ولده والقلة في عشيرته.
وها أنا قد لبست للحرب لامتها وأدرعت لها بدرعها ، من لم يقتل يمت ومن يهرب لم يفت ، فأحسنوا رحمكم الله رد الجواب.
فتكلمت بنو حنظلة ، فقالوا : يا أبا خالد نحن نبل كنانتك وفارس عشيرتك ، إن رميت بنا أصبت ، وإن غزوت بنا فتحت ، لا تخوض والله غمرةً إلا خضناها ، ولا تلقى والله شدة إلا لقيناها ، ننصرك بأسيافنا ونقيك بأبداننا ، فانهض لما شئت.
وتكلمت بنو سعد بن زيد ، فقالوا : يا أبا خالد إن أبغض الأشياء إلينا خلافك والخروج عن رأيك ، وقد كان صخر بن قيس أمرنا بترك القتال فحمدنا أمرنا وبقي عزنا فينا ، فأمهلنا نراجع المشورة ونأتك برأينا.
وتكلمت بنو عامر بن تميم فقالوا : يا أبا خالد نحن بنو أبيك وحلفاؤك ، لا نرضى إن غضبت ولانقطن إن ضعنت ، والأمر إليك ، فادعنا نجبك ومرنا نطعك ، والأمر إليك إذا شئت.
فقال : والله يا بني سعد لئن فعلتموها لا يرفع الله عنكم السيف أبداً ، ولا يزال سيفكم فيكم.
ثم كتب الى الحسين عليه السلام.
بسم الله الرحمن الرحيم
أما بعد ، فقد وصل إلي كتابك ، وفهمت ما ندبتني إليه ودعوتني له من الأخذ بحظي من طاعتك والفوز بنصيبي من نصرتك ، وأن الله لم يخل الأرض من عاملٍ عليها بخير ودليل على سبيل النجاة ، وأنتم حجة الله على خلقه ووديعته في أرضه ، تفرعتم من زيتونة أحمدية هو أصلها وأنتم فرعها ، فأقدم سعدت بأسعد طائر ن فقد ذللت لك أعناق بني تميم وتركتهم أشد تتابعأً لك من الإبل الظلماء يوم خمسها لورود الماء ، وقد ذللت لك رقاب بني سعد وغسلت لك درن صدورها بماء سحابة مزن حتى استهل برقها فلمع.
فلما قرأ مولاي وشفيعي الحسين عليه السلام الكتاب قال : « آمنك الله يوم الخوف وأعزك وأرواك يوم العطش الأكبر ».
فلما تجهز المشار إليه للخروج إلى الحسين عليه السلام بلغه قتله قبل أن يسير ، فجزع من انقطاعه عنه .
وأما المنذر بن الجارود ، فإنه جاء بالكتاب والرسول إلى عبيدالله بن زياد ، لأن المنذر خاف أن يكون الكتاب دسيساً من عبيدالله بن زياد ، وكانت بحرية بنت المنذر زوجة لعبيدالله ، فأخذ عبيدالله الرسول فصلبه ، ثم صعد المنبر فخطب وتوعد أهل البصرة على الخلاف وإثارة الإرجاف.
ثم بات تلك الليلة ، فلما أصبح استناب عليهم أخاه عثمان بن زياد ، وأسرع هو إلى قصد الكوفة.
فلما قاربها نزل حتى أمسى ، ثم دخلها ليلاً ، فظن أهلها أنه الحسين عليه السلام ، فتباشروا بقدومه ودنوا منه ، فلما عرفوا أنه ابن زياد تفرقوا عنه ، فدخل قصر الامارة وبات ليلته إلى الغداة ، ثم خرج وصعد المنبر وخطبهم وتوعدهم على معصية السلطان ووعدهم مع الطاعة بالإحسان .
فلما سمع مسلم بن عقيل بذلك خاف على نفسه من الاشتهار ، فخرج من دار المختار وقصد دار هاني بن عروة، فآواه وكثر اختلاف الشيعة إليه ، وكان عبدالله بن زياد قد وضع المراصد عليه.
فما علم أنه في دار هاني دعا محمد بن الأشعث وأسماء بن خارجة وعمرو بن الحجاج وقال : ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا ؟
فقالوا : ماندري ، وقد قيل : إنه يشتكي.
فقال : قد بلغني ذلك وبلغني أنه قد برء وأنه يجلس على باب داره ، ولو أعلم أنه شاك لعدته ، فالقوه ومروه أن لايدع ما يجب عليه من حقنا ، فإني لا أحب أن يفسد عندي مثله ، لأنه من أشراف العرب.
فأتوه حتى وقفوا عليه عشية على بابه ، فقالوا : ما يمنعك من لقاء الأمير ، فإنه قد ذكرك وقال : لو أعلم أنه شاكٍ لعدته.
فقال لهم : الشكوى تمنعني.
فقالوا له : إنه قد بلغه إنك تجلس على باب دارك كل عشية ، وقد استبطاك ، والإبطاء والجفاء لايحتمله السلطان من مثلك ، لأنك سيدٌ في قومك ، ونحن نقسم عليك إلا ما ركبت معنا إليه . فدعا بثيا به فلبسها وفرسه فركبها ، حتى إذا دنا من القصر كأن نفسه قد أحست ببعض الذي كان ، فقال لحسان بن أسماء بن خارجة : يابن أخي إني والله من هذا الرجل لخائف ، فما ترى ؟
فقال : والله يا عم ما أتخوف عليك شيئاً ، فلا تجعل على نفسك سبيلاً ، ولم يك حسان يعلم في أي شيء بعث عبيدالله بن زياد . فجاء هاني والقوم معه حتى دخلوا جميعاً على عبيدالله ، فلما رأى هانياً قال : أتتك بخائن رجلاه ، ثم التفت إلى شريح القاضي ـ وكان جالساً عنده ـ وأشار إلى هاني وأنشد بيت عمرو بن معدي كرب الزبيدي :
أريد حياته ويريد قتلي * عذيرك من خليلك من مراد
فقال له هاني : وما ذاك أيها الأمير ؟
فقال له : إيهاً يا هاني ، ما هذه الأمور التي تربص في دارك لأمير المؤمنين وعامة المسلمين ؟ جئت بمسلم بن عقيل فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك وظننت أن ذلك يخفى علي.
فقال : ما فعلت.
فقال ابن زياد : بلى قد فعلت.
فقال : ما فعلت أصلح الله الأمير.
فقال ابن زياد : علي بمعقل مولاي ـ وكان معقل عينه على أخبارهم ، وقد عرف كثيراً من أسرارهم ـ فجاء معقل حتى وقف بين يديه.
فلما رآه هاني عرف أنه كان عيناً عليه ، فقال : أصلح الله الأمير والله ما بعثت إلى مسلم ولا دعوته ، ولكن جاءني مستجيراً ، فاستحييت من رده ، ودخلني من ذلك ذمام فآويته ، فأما إذ قد عمت فخل سبيلي حتى أرجع إليه وآمره بالخروج من داري إلى حيث شاء من الأرض ، لأخرج بذلك من ذمامه وجواره.
فقال له ابن زياد : والله لا تفارقني أبداً حتى تأتيني به.
فقال : والله لا آتيك به أبداً ، آتيك بضيفي حتى تقتله !
فقال : والله لتأتيني به.
قال : والله لا آتيك به.
فلما كثر الكلام بينهما ، قام مسلم بن عمرو الباهلي فقال : أصلح الله الأمير أخلني وإياه حتى أكلمه ، فقام فخلى به ناحية ـ وهما بحيث يراهما ابن زياد ويسمع كلامهما ـ إذ رفعا أصواتهما.
فقال له مسلم : يا هاني أنشدك الله أن لا تقتل نفسك وتدخل البلاء على عشيرتك ، فوالله إني لأنفس بك عن القتل ، إن هذا الرجل ابن عم القوم وليسوا بقاتليه ولا ضاريه ، فادفعه إليه ، فإنه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة ، وإنما تدفعه إلى السلطان.
فقال هاني : والله إن علي في ذلك الخزي والعار ، أنا أدفع جاري وضيفي ورسول ابن رسول الله إلى عدوه وأنا صحيح الساعدين وكثير الأعوان ! والله لو لم أكن إلا رجلاً واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتى أموت دونه.
فأخذ يناشده ، وهو يقول : والله لا أدفعه.
فسمع ابن زياد ذلك ، فقال : أدنوه مني ، فأدني منه ، فقال : والله لتأتيني به أو لأضر بن عنقك.
فقال هاني : إذن والله تكثر البارقة حول دارك.
فقال ابن زياد : والهفاه عليك ، أبا البارقة تخوفني ـ وهاني يظن أن عشيرته يسمعونه ـ ثم قال : أدنوه مني ، فأدني منه ، فاستعرض وجهه بالقضيب ، فلم يزل يضرب أنفه وجبينه وخده حتى كسر أنفه وسيل الدماء على ثيابه ونثر لحم خده وجيبنه على لحيته وانكسر القضيب.
فضرب هاني يده إلى قائم سيف شرطي ، فجذبه ذلك الرجل ، فصاح ابن زياد : خذوه فجروه حتى ألقوه في بيتٍ من بيوت القصر واغلقوا عليه بابه ، وقال : اجعلوا عليه حرساً ، ففعل ذلك به.
فقام أسماء بن خارجة إلى عبيدالله بن زياد ـ وقيل : إن القائم حسان بن أسماء ـ فقال : أرسل غدرٍ سائر اليوم ، أيها الأمير أمرتنا أن نجيئك بالرجل ، حتى إذا جئناك به هشمت وجهه وسيلت دماءه على لحيته وزعمت أنك تقتله.
فغضب ابن زياد من كلامه وقال : وأنت ها هنا ! وأمر به فضرب حتى ترك وقيد وحبس في ناحية من القصر.
فقال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، إلى نفسي أنعاك يا هاني.
وبلغ عمرو بن الحجاج أن هانياً قد قتل ـ وكانت رويحة ابنة عمرو هذا تحت هاني بن عروة ـ فأقبل عمرو في مذحج كافة حتى أحاط بالقصر ونادى : أنا عمرو بن الحجاج وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم تخلع طاعة ولم تفارق جماعة ، وقد بلغنا أن صاحبنا هانياً قد قتل.
فعلم عبيدالله باجتماعهم وكلامهم ، فأمر شريحاً القاضي أن يدخل على هاني فيشاهده ويخبر قومه بسلامته من القتل ، ففعل ذلك وأخبرهم ، فرضوا بقوله وانصرفوا.
وبلغ الخبر إلى مسلم بن عقيل ، فخرج بمن بايعه إلى حرب عبيدالله ، فتحصن منه بقصر الامارة ، واقتتل أصحابه وأصحاب مسلم.
فبعد أن اشتد القتال بين مسلم عليه السلام واصحاب ابن زياد عليه اللعنة, جعل أصحاب عبيدالله الذين معه في القصر يتشرفون منه ويحذرون أصحاب مسلم ويتوعدونهم بجنود الشام ، فلم يزالوا كذلك حتى جاء الليل.
فجعل أصحاب مسلم يتفرقون عنه ، ويقول بعضهم لبعض : ما نصنع بتعجيل الفتنة ، وينبغي أن نقعد في منازلنا وندع هؤلاء القوم حتى يصلح الله ذات بينهم.
فلم يبق معه سوى عشرة أنفس ، ودخل مسلم المسجد ليصلي المغرب ، فتفرق العشرة عنه.
فلما رأى ذلك خرج وحيداً في سكك الكوفة ، حتى وقف على باب امرأة يقال لها طوعة، فطلب منها ماءً فسقته ، ثم استجارها فأجارته ، فعلم به ولدها ، فوشى الخبر إلى عبيدالله بن زياد ، فأحضر محمد بن الأشعث وضم إليه جماعة وأنفذه لإحضار مسلم.
فلما بلغو دار المرأة وسمع مسلم وقع حوافر الخيل ، لبس درعه وركب فرسه وجعل يحارب أصحاب عبيدالله.
ولما قتل مسلم منهم جماعة نادى إليه محمد بن الأشعث : يا مسلم لك الأمان.
فقال له مسلم : وأي أمان للغدرة الفجرة ، ثم أقبل يقاتلهم ويرتجز بأبيات حمران بن مالك الخثعمي يوم القرن حيث يقول :
أقسمــت لا أقتل إلا حراً * وإن رأيت الموت شيئـاً نكرا
أكــره أن أخدع أو أغرا * أو أخلط البارد سخنـاً مـرا
كل امرىءٍ يوماً يالقي شرا * أضربكم ولا أخــاف ضرا
فقالوا له : إنك لا تخدع ولا تغر ، فلم يلتفت إلى ذلك ، وتكاثروا عليه بعد أن أثخن بالجراح ، فطعنه رجل من خلفه ، فخر إلى الأرض ، فأخذ أسيراً.
فلما أدخل على عبيدالله بن زياد لم يسلم عليه ، فقال له الحرسي : سلم على الأمير.
فقال له : اسكت يا ويحك والله ما هو لي بأمير.
فقال ابن زياد : لا عليك سلمت أم لم تسلم ، فإنك مقتول.
فقال له مسلم : إن قتلتني فلقد قتل من هو شرٌّ منك من هو خيرٌ مني ، وبعد فإنك لا تدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السريرة ولؤم الغلبة ، لا أحد أولى بها منك.
فقال له ابن زياد : يا عاق يا شاق ، خرجت على إمامك وشققت عصى المسلمين ، وألقحت الفتنة بينهم.
فقال له مسلم : كذبت يابن زياد ، إنما شق عصى المسلمين معاوية وابنه يزيد ، وأما الفتنة فإنما ألقحها أنت وأبوك زياد بن عبيد عبد بني علاج من ثقيف ، وأنا أرجوا أن يرزقني الله الشهادة على يدي أشر البرية .
فقال ابن زياد : منتك نفسك أمراً ، حال الله دونه ولم يرك له أهلاً وجعله لأهله.
فقال مسلم : ومن أهله يابن مرجانة ؟
فقال : أهله يزيد بن معاوية !
فقال مسلم : الحمد الله ، رضينا بالله حكماً بيننا وبينكم.
فقال ابن زياد : أتظن أن لك من الأمر شيئاً.
فقال مسلم : والله ما هو الظن ، ولكنه اليقين.
فقال ابن زياد : أخبرني يا مسلم لم أتيت هذا البلد وأمرهم ملتئمٌ فشتت أمرهم بينهم وفرقت كلمتهم ؟
فقال له مسلم : ما لهذا أتيت ، ولكنكم أظهرتم المنكر ودفنتم المعروف وتأمرتم على الناس بغير رضىً منهم وحملتموهم على غير ما أمركم به الله ، وعملتم فيهم بأعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر فيهم بالمعروف وننهى عن المنكر وندعوهم إلى حكم الكتاب والسنة ، وكنا أهل ذلك كما أمر رسول الله صلى الله عليه وآله.
فجعل ابن زياد لعنه الله يشتمه ويشتم علياً والحسن والحسين عليهم السلام !
فقال له مسلم : أنت وأبوك أحق بالشتم ، فاقض ما أنت قاض يا عدو الله .
فأمر ابن زياد بكير بن حمران أن يصعد به إلى أعلا القصر فيقتله ، فصعد به ـ وهو يسبح الله تعالى ويستغفره ويصلي على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ـ فضرب عنقه ، ونزل وهو مذعور .
فقال له ابن زياد : ما شأنك ؟
فقال : أيها الأمير رأيت ساعة قتله رجلاً أسوداً شنيء الوجه حذاي عاضاً على إصبعه ـ أو قال شفتيه ـ ففزعت فزعاً لم أفزعه قط .
فقال ابن زياد : لعلك دهشت .
ثم أمر بهاني بن عروة ، فأخرج ليقتل ، فجعل يقول : وامذحجاه وأين مني مذحج ! واعشيرتاه وأين مني عشيرتي !
فقالوا له : يا هاني مد عنقك .
فقال : والله ما أنا بها سخي ، وما كنت لأعينكم على نفسي .
فضربه غلام لعبيد الله بن زياد يقال له رشيد فقتله .
وفي قتل مسلم وهاني يقول عبدالله بن زبير الأسدي ، ويقال : إنه للفرزدق :
فإن كنت لا تدرين ما الموت فانظري * إلى هاني في السوق وابــن عقيل
إلى بطل قد هشم السيف وجـــهه * وآخر يهوى من جـــــدار قتيل
أصابهما جور البغى فـــأصبحـا * أحاديث من يسعى بكل سبيل
ترى جسداً قد غير الموت لــونـه * ونضح دم قد ســــال كل مسيل
فتىً كان أحيى من فتـاة حيـــيةً * واقطع من ذي شفـــرتين صقيل
أيركب أسمــا الهماليــــج آمناً * وقد طلبته مذحج بـــــذحول
تطوف حــــواليـه مراد وكلهم * على أهبة من سائل ومســــول
فإن أنتم لم تثأروا بأخيكم * فكونوا بغيا أرضيت بقليل
وكتب عبيدالله بن زياد بخبر مسلم وهاني إلى يزيد بن معاوية.
فأعاد عليه الجواب يشكره فيه على فعاله وسطوته ، ويعرفه أن قد بلغه توجه الحسين عليه السلام إلى جهته ، ويأمره عند ذلك بالمؤاخذة والإنتقام والحبس على الظنون والأوهام.
فسلام على مسلم وعلى هاني وطوبى لهم