من أوراقِ أيلول...
مع رجوع أيلول... وعودة الطيور إلى أحضان الدفء... وانبعاث تلك الرائحة من الكتب والدفاتر المتنقلة بين أيدي الأطفال...
وكرائحةِ الشتوة الأولى، يعودُ طيفك يرفرف بين جدران البيت، فيستفيق الحنين ويرتعش القلبُ لذكراك...
إستيقظت القرية باكراً جداً وقتها، وكانت الأشجار تنفض عنها النومچچچ وابتدأت الشمس تطل من وراء التلال فتصبغ رؤوس الأشجار والبيوت بذلك اللون الأرجواني الجميل...
كنتُ أسمع صوت جارنا «أبو علي» يسبِّح مستعداً للصلاة ماراً أمام باب المنزل متجهاً صوب المسجد.
وحرّك «جواد» سيارته مؤذناً ببدء عمله باكراً كالمعتاد...
ومرّ قطيع «أبو يوسف» متثاقلاً الى الحقول التي تنسرح الى شمال القرية، محاولاً استغلال القليل مما تبقى من الأعشاب الخضراء...
وصحا طفلٌ في آخر الحارة، نقلُ الهدوءُ صوت بكائه وصوت أمه تهدهد له كي يتيح لها النوم قليلاً...
وكان العالم الصغير هذا هذا مزيجاً من أناس طيبين مؤمنين...
منذ زمنٍ إعتادوا العيش بعزٍ وقوة ودون حاجةِ أحد...
وأنتَ، استيقظت باكراً في ذلك اليوم..
ــ سأُحضر الكتب والدفاتر للأطفالِ اليوم إن شاء الله...
فلينتظروني...
وذهبتَ... وقُبيلَ الظهر... أذاع اليهود بضرورة أن يتجمع كل رجال القرية في الساحة...
لم يكن شيئاً جديداً... فمنذ وطأت نعالهم النجسة أرضنا الطاهرة يذلونهم ويأخذون البعض منهم.
إصطفّ الجميع صفّين... الشمسُ حارقة قب الظهر...
خيّم سكون على الرجال والشباب وعلى النساء والأطفال الذين كانوا ينتظرون ما الذي سيحصل...
بدأت الشمس تذيب صمود الواقفين وارتفقت من هنا وهناك بعض الاحتجاجات البائسة...
إستطعتُ أن أرى بوضوح ـ من مكاني الذي يشرف على الساحة ـ كل ما حدث ورأيت بعيني كيف كان المجنَّدين اليهود يبتسمون تلك الإبتسامة الساخرة ويطلقون النار في الهواء...
وكان يقترب الواحد منهم الى بعض الرجال يختارونهم دون تعمُّد يسألونهم عن أسمائهم وأولادهم وعملهم وحياتهم..
وينهرون بكعب السلاح بعض الشباب الذين يحاولون تحديهم بإجاباتهم...
كنتَ بينهم واستطعتُ أن أراك تحاول أن تؤكد لي أن وقوفك تحت الشمس لا يؤلمك...
أؤكدُ لك أنني أعرف صبرك وقوتك...
ولكن نظراتك كانت تقول لي إن وعدك للأطفال بالعودةِ باكراً مع أغراضهم وحاجياتهم بدأ يضغط عليك...
ــ قفوا جيداً...
قالها جندي بلباسٍ داكن الخضرة يحمل رشاشاً وتبدو عليه علامات الظلم وجرى تفتيش دقيق للجميع... وأعلن الجنديان اللذان قاما بهذه المهمة للمسؤول عنهم أن الأجساد والجيوب خالية من السلاح... ضرب زعيمهم بيده اليمنى على اليسرى، وكان الواقفون أمامه غير واعين لأيما شيء، ثم سار بخطوات قصيرة حازمة أمام الصف المترقب وقال: إنها الحرب ــ إنها الحرب.
ومن وراء سيارة الجيب نادى جندياً قصير القامة بشع المنظر وقال له: أنظر جيداً وتصرّف.
وفجأةً... سُمِعَ صوت طلقاتٍ متقطعة دقيقة... ثم تتالت الطلقات وكانت المفاجأة أقوى من أن تُرسَمْ.
سقط الرجال أرضاً وغرقت وجوههم وأكفهم في التراب وقد تكوَّنوا كتلةً واحدة مختلطة إختلاطاً دموياً فيما كان حيط من الدم الأحمر ينساب من تحتِ أجسادهم...
... ودون أن يعي الناس ما حصل... كانت وجوههم المبلولة بالعرق تنوء تحت ثقل المشهد...
وانقلبت الضيعة... وبدأت تنكمش وتسير نحو الأجساد المكوَّمة...
وبرعبٍ شديد استقل اليهود آلياتهم وقفلوا راجعين بسرعةٍ لم نعهدها منهم...
وكان جسدها هناك بين الشهداء... شاهدٌ على الهمجية... وقطع أفكاري وجهك: جامدٌ، صامت، موحٍ، حزين...
واختلف كل شيء... بدأ الظلام يقترب واللهب الأحمر يرتفع بقوةٍ نحو الأفق ثم يهمد فجأة، ومرَّت لحظات من الصمت الميت...
لم تنته القصة عند هذا الحد... بعد عدة أيام جاء جارنا «أبو محمد» وأوصل إلينا بعض الأغراض وقال وهو يغصُّ بكلماته...
«لقد اشتراها للأطفال قبل الذي حصل».
إنها الكتب والدفاتر...
أميمة علّيق