بسمه تعالى
السلام عليكم
هذا موضوع قرأته في أحد المواقع
لسماحة العلامه الشيخ نزار سنبل حفظه الله
قبل كل شيء لابدّ أن نعرف من هو الشاعر الخطّي؟ وإلى أي مكان ينتسب؟ لنعرف - بعد ذلك - مدى بُعْد الكلمة عنده، وندرك عمق الفكرة في شعره، ونحلق معه في سماء نفسه وخياله.
الخطّي نسبة إلى (الخطّ) بفتح الخاء أو كسرها، الاسم المعروف لمنطقة القطيف حالياً، والشاعر الخطّي هو العلاّمة الشيخ عبد الحميد بن الإمام الشيخ علي أبو الحسن الخنيزي، المعروف في الأوساط العلمية والأدبية الآن بالشيخ عبد الحميد الخطّي كما أراده لنفسه من عهد قديم.
ولد في موطن آبائه (القطيف) في السابع عشر من شهر رمضان المبارك عام 1331 هـ، أخذ مبادئ الدروس الحوزوية في بلاده ثم سافر إلى النجف الأشرف قبلة أنظار العالم الشيعي؛ ليكمل دراسته الدينية هناك عام 1356هـ، ومكث فيها ثمانِ سنوات «منفقاً سواد ليله وبياض نهاره في تحصيل العلوم» كما يقول عن نفسه(1)، ثم عاد إلى وطنه متوّجاً بتاج العلم عام 1364هـ؛ ليشارك في الحركة العلمية ويحمل راية التجديد في الشعر والأدب.
عدّه مؤرخو الأدب القطيفي المعاصر رائد الحركة الشعرية الحديثة في القطيف، وباذر بذرتها الأولى، فقد قال عنه الأستاذ الشيخ عبد الله الخنيزي: «والخلاصة أنّ الخطّي شاعر وكاتب مجيد وأديب ضخم، فهو شاعر وطنه وأديبه، وهو واضع الحجر الأول للتجديد في وطنه، ليس في الحياة الأدبية فحسب ولكنه مجدد بأوسع مفاهيم التجديد.
ولا يزال الخطّي الأستاذ الأول للحركة الأدبية الإبداعية القائمة بشخصه، وتلاميذه الشباب الطامح»(2)-.
وقال عنه الأستاذ محمد سعيد المسلم: «شاعر من الروّاد الأوائل، تلقّى تعليمه في القطيف، ثم هاجر إلى النجف الأشرف فأكمل ثقافته هناك، ثم عاد أخيراً وأسهم في الحركة الأدبية، يتميّز بثقافة لغوية بارعة، له كتاب (آراء وخواطر)، وله بحوث ودراسات متنوعة..»(3)ـ.
و(المسلم) في كتابه هذا لم ينصف (الخطّي) بما يستحقه من لقب، إلاّ أنّه عاد مرة أخرى في كتابه (القطيف واحة على ضفاف الخليج) ليقول عنه: «وهو بالإضافة إلى علميته أديب وشاعر، يعتبر الرائد الأول في الشعر القطيفي المعاصر»(4)-.
وقال عنه الأستاذ عبد العلي السيف: «رأس المدرسة الحديثة للشعر القطيفي الحديث،ورائده الأول وباذر بذرته والساهر عليها»(5)-.
كان للشاعر (الخطّي) دور بارز في تنمية الشعر القطيفي والأخذ بيده إلى حيث مستواه في المنزل الرفيع، بما يحمله من روح وثّابة إلى الارتقاء، وحبّ تحليق فوق عوالي الشمم، وشاعرية خلاّقة، وحافظة قليلة النظير، وإلمام بخصائص اللغة ومفرداتها، مضافاً إلى طاقته المتفجرة وتقدمه العلمي، فكان يهتم بالكلمة ويعنى بالحرف ويرعى النشء الجديد آنذاك، والذين أصبحوا فيما بعد من أعلام الشعر والأدب في الخليج عامة، ولقد سمعت منه أنّه كان يصلح لبعضهم شعره حتى استقام قلمه ونما عوده، وما أحرى بعض هؤلاء بقول الشاعر:
وكم علّمته نظم القوافي ولما قال قافية هجاني
فأنكر الأستاذية ولاذ خلف الركام، ولم يضر شاعرنا شيء من ذلك الجحود.
لم يكن ذلك سوى تمهيد لابدّ منه للدخول في العنوان الذي من أجله أمسكت بالقلم.
الصور والرسومات فن من الفنون يمتع العين ويغني الروح بالإلهام والخيال والنشوة والارتياح، وما أوقعه في النفس حينما تكون الصور متحركة تشعرك بالحيوية والنشاط، وهذا أمر طبيعي يدركه كل من له إحساس وإن لم يكن مرهفاً، فإنّك عندما ترى صورة فوتوغرافية لشلال منحدر من أقاصي الجبال، تنداح مياهه بين الشجر والحجر، تشعر بنكهة مُثْلى للجمال الطبيعي وهو يدغدغ روحك ويداعب أحاسيسك، ولكنك لن تستطيع أن تعبّر عن ذلك الشعور وأنت ترى المنظر نفسه في التلفزيون أو على الطبيعة، والماء ينساب بين عينيك في سواقيه وتسمع تكسّر أمواجه على الصخور النائمة في السفح.
ذلك هو عالم الصور وما يخلقه من أحاسيس ومشاعر في الروح الشفافة، فتعال معي لشعر شاعرنا (الخطّي) لنرى تلك الصور في إطارها الشعري حيث لا تراها العين الجارحة، وحسبها أن تكون مرآة تعبر الصور من خلالها إلى عالم النفس المجردة لتراها بعينها السحرية وتلمسها بشفافيتها النورية، فإنّ في شعر (الخطّي) صوراً متناثرة هنا وهناك تسبح بك في عالم من خيال يفقدك شعورك الحسي لوقت ما.
يقول في قصيدته (مناظر) :
ربّ يومٍ قبلَ العصافيرِ في الغابِ
وقبلَ الشموسِ في الآفاقِ
في سكونِ الدّجى وفي هَدْأةِ الجدولِ
في غَفْوةِ الشّذى العبّاقِ
جئتُ أسعى لمشهد الجوهر الفرد(6)
وسرّ المكوّنِ الخلاّقِ
غربتْ أنجمُ السماءِ ولاحتْ
أنجمٌ في سماه ذاتُ ائتلاقِ
والثّريّا(7) عريانةٌ تتجلّى
قد أُحيطتْ من السّنا بنِطاقِ
واقرأ له وهو يصف - في القصيدة نفسها - انفلال جيش الليل أمام قوة الفجر المضيء ،وكيف كان يعدو الفجر كالعتاق مصلتاً ضبّة نوره خلف الليل المنهزم:
من رأى الفجرَ مصلتاً ضُبّةَ النّورِ
ويعدو خلفَ الدّجى كالعتاقِ
والدّجى خافقُ الجوانحِ واهي العزمِ
في حيرةٍ وفي إطراقِ
ثم ينتصر الفجر وينشر أنواره الفضية في الأفق ويبزغ نور الصباح بحركة النائم وهو يتمطى متثاقلاً متثائباً، مستفيقاً على حفيف أوراق الشجر، وخرير المياه:
وتمطّى الصباح من مهده الواجمِ
يُصغي لصيحةِ الصّفّاقِ
وتكتمل الصورة حينما يرمي بطرفه إلى الشمس فيراها تسترق الوجود بنظرة خجلى:
وأطلّت من خدرها غادةُ الآفاقِ
ترنو الوجودَ لحظَ استراقِ
ولنذهب إلى قصيدة أخرى نحتت صورتها من بيئة القطيف، فهل رأيت أمواج البحر الهادئة وهي تلقي بنفسها على الشاطئ لتنحدر قليلاً قليلاً في البحر، ثم تعاود قفزتها فوق صدر الساحل مرة أخرى فكأنّها والشاطئ يرقصان؟. لن تشاهد أكثر من هذه الصورة التي رسمها الشاعر لنا في قصيدته (ليلة..في شواطئ القطيف):
وافيتُهُ والبدرُ يبسطُ ظلّهُ
فوق الضفافِ وترقصُ الشطآنُ
وعليه من نسج المساءِ ملاءةٌ
صفراءُ باهتةٌ بها الألوانُ
وتعال لترى حركة أسراب السفن وهي بين ما تنطلق بسرعة إلى حيث تبحر، وأخرى تأوي إلى مرفئها متعبة بعد طول سفر، كأنّها الطيور تأوي إلى أعشاشها وقت المغيب:
والسُفْنُ أسرابٌ تروحُ وتغتدي
نوعانِ: ذا وانٍ وذا عجلانُ
والشرعُ خافقةُ الشعاع.. كأنمّا
نفضتْ جناحاً في الفضا العقبانُ
وزغاردُ الملاّح ينشرها الدّجى
والبحرُ مصغٍ كلّهُ آذانُ
وهنا أسألك: ألا تشعر في نفسك وأنت تقرأ هذا البيت وكأنك تسمع موّالاً رخيماً من حنجرة بحار في غروب هادئ؟
وانظر إلى بحر قد ثارت أمواجه بعصبية سلطان جائر، ثم سرعان ما هدأت العاصفة في مياهه، واستقر موجه على رمال الشاطئ يضاحكه بلطف وحنان. ماذا كنت سترسم له من صورة؟. أتجد في ذهنك صورة أبدع من هذه؟
بيناك جيّاش العباب مجرجرٌ
يقضي - لمنظرك الرهيب - جبانُ
إذ أنت منبسطُ الأسرّةِ ضاح ٌ
واني الخطى فكأنّ الكسلانُ
هل يمكنك أن ترفع كلمة (الكسلان) لتضع أخرى مكانها أشعر منها؟!
هذا ما عن البحر، وأما ما عن النهر فقد عاش شاعرنا (الخطّي) في العراق ردحاً من الزمن وشاهد نهر (الفرات) (ودجلة) وانسيابهما إلى المروج الخضراء، وكيف كان يعلو موجهما ويرسب في حركة موسيقية تختلف عن حركة ماء البحر وموجه، فقال في وصف النهر وهو يحيّي (المتنبي) في قصيدته (البطل في صورة شاعر):
وإذا النهرُ رائعُ الحسن ِنشوانُ
ويفترّ مبسمُ الأرباعِ
وإذا الموجُ راقصٌ كالمذاكي
موجةٌ إثرَ موجةٍ في اندفاعِ
وغادر المتنبي مسقط رأسه (الكوفة) وسافر حتى ضاقت به رحاب البقاع، فيصور لنا الشاعر هذه اللقطة من مسلسل حياته:
ضاربٌ في الفضاءِ طولاً وعرضاً
جانبٌ كلّ مهمةٍ ويفاعِ
يرمق الأفقَ في محاجرِهِ الحُمْرِ
ويهتزّ كاهتزاز الأفاعي
واقرأ لشاعرنا وهو يصف إحدى جلسات سمرهم أيام كان في النجف الأشرف حين يجلس مع رفاقه العلماء وشيوخ الأدب، فيقول في قصيدته (سمر):
ألّفَ (الفنّ) بينهم فتآخوا
كلّ فردٍ منهم (يتيمةُ) عِقْدِ
لايُسرّون غيرَ ما هو بادٍ
نزعوا من صدورهم كلّ حقدِ
وحديثٍ أصفى من الدمعِ حلوٌ
لم يُنَل فيه عِرْضُ (عَمْرٍ) و(عبدِ)-
صاخبٌ تارةً وطوراً صموتُ
فهو كالبحر بين جزرٍ ومدّ
وارسم في ذهنك هذه الصورة البديعة لمن تنطبق عليه في لحظة من لحظات اليأس:
فيا بلبلاً! ذِيدَ عن وكرهِ
وسدّ عليه المطارَ النسرْ
واذهب معي لقصيدته (اللّحن الحزين) لترى صوراً متعددة نأخذ منها صورة فلسفية جميلة تنقلك إلى عالم ارتداء الحياة ولبس الأشباح للأرواح:
أنت كلّ الوجودِ لا شيءَ إلاّك
ولولاكَ ما لبستُ وجودي
أترك التعليق لك أيها القارئ ليذهب خيالك وفكرك أين شاء مع كلمة (لبست وجودي)، وجل طرفك في هذا المنظر:
كم على هذه الشفاهِ!! قلوبٌ
حائماتٌ كالطير فوق القليبِ
واقرأ هذا البيت وهو يحكي الحالة النفسية في ظرف حساس، ظرف تغلق فيه الأبواب ويسدل الستر، ويأتي الخطاب من العاشقة:
قم واتِ ما شيتَ قبل الصبح يغشانا.
فتعتري الشاعر هزة الجمال وروعة الجلال فيقف حائراً بين يدي عقله وعاطفته:
وحرتُ بين يدي عقلي وعاطفتي
أأنثني مَلَكَاً أم أغدو شيطاناً
وهكذا تأسرنا الصور المتحركة المتتابعة في شعر شاعرنا (الخطّي) ونحن نقرأ قصائده،التي لم ينشر منها إلاّ القليل في مجلة (العرفان) و (الأديب) و(الألواح) و(الغري) و(الهاتف)وغيرها، منذ أمد بعيد.
ونختم مقالنا برباعية بديعة تحمل صورة جميلة لعادة قديمة كتب عليها الاندثار، قال عنها شاعرنا معلّقاً على عنوان الرباعية (ليلة الناصفة): هي ليلة النصف من شعبان، تقابلها في العراق (ليلة ما جينا في النصف من رمضان، ولا يعرف قيمة هاتين الليلتين إلاّ الآباء...:
يا ليلةً بوركتِ من ليلةٍ
فيِ تجلّى الحسنُ في صبيتي
يعدون من بيتٍ إلى آخرٍ
عدْوَ الفراشاتِ على الروضةِ
يرفّ قلبي لأناشيدهم
مثلَ رفيفِ الطلّ في الزهرةِ
تضحك في أوجههم راحةٌ
من جهدِ أيدٍ - بهم - برّةِ
---------------
1- مجلة الموسم العدد (9 - 10) ص 106، مقال بعنوان (إنما الشاعر الخطّي) للشاعر محمد رضا الشماسي.
2- مقال نشر في مجلة العرفان اللبنانية قبل ما يربو على الثلاثين عاماً تقريباً، بعنوان: الحركات الفكرية..في القطيف.
3- ساحل الذهب الأسود، ص 243.
4- القطيف واحة على ضفاف الخليج، 363.
5- القطيف وأضواء على شعرها المعاصر، ص267.
6- مشهد الإمام علي عليه السلام في النجف الأشرف.
7- المراد من الثريا هنا ثريا الكهرباء في سقف المشهد المعبر عنه، لسموه بالسماء.
.....................................
واوجه سلامي للشيخنا المقدس الخطي في رمسه
رحمة الله عليه ورحم الله من قرا له الفاتحة
والسلام