بسم الله الرحمن الرحيم
{وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ}
آمنا بالله صدق الله العلي العظيم
انطلاقًا من الآية المباركة نتحدث في محاور ثلاثة:
المحور الأول: في الشخصية الإحساسية للإنسان.
المحور الثاني: وفي تناغم الإحساس مع العبادة.
المحور الثالث: وفي مرتبة الانصعاق بنور الله تبارك وتعالى.
المحور الأول: الشخصية الإحساسية للإنسان.
من أجل بيان هذه النقطة – وهي أن الإنسان شخصية إحساسية ومخلوقٌ إحساسيٌ – لابد لنا أن نذكر عدة أمور:
الأمر الأول:
إنّ الله عز وجل خلق عوالم ثلاثة، كل عالم يكون منشأ وعلة للعالم الذي بعده، العالم الأول هو عالم العقول الكلية المجرّدة، وهذا ما يعبّر عنه بـ(عالم الجبروت)، فعالم العقول الكلية هو أول عالم أفيض من قِبَلِ الله، وكان الإنسان في هذا العالم موجودًا وجودًا إجماليًا، أي: وجودًا ليس له حدودٌ وتفاصيلُ.
ثم يلي هذا العالم: عالم النفوس المعبّر عنه بـ(عالم الملكوت)، وفي هذه العالم خرج الإنسان من الوجود الإجمالي الذي كان في العالم الأول – وهو عالم الجبروت – وأصبح ذا وجود تفصيلي في هذا العالم ألا وهو عالم الملكوت، إلا أنّ الإنسان في هذه العالم نورٌ يسبّح الله و يهلله ويشاهد ملكوت الله وجماله وجلاله.
ثم يلي هذا العالم: عالم المادة الذي نحن نعيش فيه، وعالم المادة هو عالم النقص وهو عالم الضيق؛ لأنّ المادة هي ما يشغل حيزًا من الفراغ، فلأنّ الإنسان انتقل من عالم العقول إلى عالم النفوس إلى عالم المادة المسمّى بـ(عالم الناسوت) أصبح الإنسان في هذا العالم يعيش نقصًا وضيقًا؛ لأنّ المادة تفرض عليه أن يكون ناقصًا، فالمادة تفرض الحدود، فالإنسان المادي هو الإنسان المحدود بزمن ومكان لا يمكنه أن يتخطاهما ولا أن يقفز عليهما.
مثلاً: أنا الآن في الساعة الثامنة والربع مثلاَ، لا يمكنني أن أقفز على هذا الزمن فأحوّل نفسي إلى الساعة التاسعة، الزمن يقودني لا أنا أقود الزمن, الزمن يحكمني لا أنا أحكم الزمن، فلأني مادة لابد أن أخضع للزمن، وأيضًا المادة محدودة بالمكان، فأنا ككتلة تشغل حيزًا من الفراغ لا يمكن لهذه الكتلة أن تشتغل عدة أمكان في آنٍ واحدٍ، لا يمكن أن أكون هنا في المأتم وأكون في الشارع وأكون في السوق في وقتٍ واحدٍ، المادة محدودة بالمكان، لا يمكن أن تتخطى المكان.
إذن فالوجود المادي للإنسان في هذا العالم (عالم الناسوت) وجودٌ ناقصٌ، وجودٌ ضيّقٌ، لأنه وجودٌ محدودٌ بحد الزمان وبحد المكان بينما عالم العقول – الذي هو العالم الأول – كان عالمًا مجرّدًا تمامًا عن المادة فهو لا يحمل المادة لا في ذاته ولا في آثاره، فالإنسان عندما كان موجودًا في العالم الأول كان وجودًا مجرّدًا عن المادة وآثارها، فلم يكن يحمل كتلة ولم يكن يحمل أبعادًا من طول أو عرض أو عمق أو صورة أو شكل، ثم انتقل الإنسان إلى عالم الملكوت (عالم النفوس) وهو أيضًا ليس عالمًا ماديًا – يعني: ليس فيه كتلة – ولكن فيه آثار المادة، أي أن الإنسان عندما انتقل إلى عالم الملكوت اتسم بصورة فاكتسب آثار المادة (الصورة والشكل) ليس إلا، وإلا لم يكن له كتلة ولا عمق، وعندما وصل إلى هذا العالم الثالث (عالم المادة) اكتسب صورة وكتلة، فعالم المادة – وهو العالم الثالث – أنقص العوالم وأضيقها، بخلاف العالمَيْن الذين سبقاه، هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني:
بما أنّ الإنسان في عالم المادة ناقصٌ إذن هو محتاجٌ إلى الحركة؛ لأن الناقص يبحث عن الكمال، والكمال يحتاج إلى حركة تخرجه من القوة إلى الفعل، فلذلك الإنسان في هذا العالم يتحرك، بينما الإنسان في العوالم السابقة لم يكن متحركًا, الإنسان في عالم العقول كان كاملاً لا يحتاج إلى حركةٍ؛ لأنّ الحركة فرع النقص، والإنسان في عالم العقول لم يكن يعيش نقصًا حتى يحتاج إلى الحركة، إنّما لما نزل الإنسان إلى عالم المادة فصار ناقصًا محدودًا بزمن ومكان وصار لا يستطيع أن يكتشف ما وراء الزمن أو يكتشف ما وراء المكان فاضطر إلى الحركة حتى يكمل نفسه، فالحركة هي من شؤون عالم المادة لا من شؤون العوالم السابقة.
والحركة كما يعرّفها علماؤنا: الخروج من القوة إلى الفعل، كان الإنسان جاهلاً فكان عالمًا بالقوة، تحرك، أصبح عالمًا بالفعل، والحركة التي يحتاجها الإنسان قد تكون حركة زمانية، كأن ينتقل من الطفولة إلى الشباب إلى الكهولة إلى الشيخوخة، وهذه الحركة الزمانية تكسبه كمالاً لأنها تكسبه خبرة وتجربة، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} .
وقد يحتاج الإنسان إلى حركة مكانية كما ورد عن الرسول (صلى الله عليه وآله): "اطلبوا العلم ولو في الصين" أي: بالحركة المكانية يحصل الإنسان على الكمال.
وقد يحتاج الإنسان إلى حركة جوهرية، والحركة الجوهرية تعني حركة الوجود في صميم ذاته وجوهره، مثلاً: عندما تجلس أمامي في المحاضرة وتستمع المعلومات وينتقل ذهنك وفكرك من معلومة إلى أخرى ومن معلوم إلى مجهول ومن مقدمات إلى نتيجة فإنّ هذه الحركة الفكرية ليست حركة مكانية ولا حركة زمانية، إنها حركة جوهرية، حركة الروح في صميم ذاتها وجوهرها، فالإنسان لأنه ناقصٌ يحتاج إلى الكمال، والكمال يتوقف على الحركة، والحركة قد تكون زمانية، قد تكون مكانية، قد تكون جوهرية، كما شرحنا.
الأمر الثالث: أن الله عز وجل عندما خلق الإنسان وأودع فيه الدافعية نحو الحركة جهّزه بأجهزة تساعده على الحركة، وهذه الأجهزة والأدوات التي جهّز بها الإنسان هي التي نعبّر عنها بالشخصية الإحساسية للإنسان, فما معنى الشخصية الإحساسية للإنسان التي تعبّر عن أجهزة الحركة وأدوات الحركة؟ الشخصية الإحساسية هي عبارة عن أن الإنسان – كل إنسان منا – منذ طفولته يمرّ بحركةٍ دائريةٍ فكريةٍ تنطلق من الإحساس، كيف هذه الحركة؟ أضرب لك مثالاً: الطفل عندما يفتح عينه فيرى أمه تبتسم تبدأ عنده الحركة الفكرية، تمر هذه الحركة بعدة محطات هو لا يشعر بها:
المحطة الأولى تسمّى بالمعرفة الحسية
فصورة الابتسامة – ابتسامة أمه – تنقلها العين إلى الدماغ، هذه أول محطة، تسمّى بالمعرفة الحسية.
المحطة الثانية: المعرفة الخيالية.
يملك الإنسان قوة تسمّى (قوة الخيال) تقوم هذه القوة بالاحتفاظ بالصورة وبتكرارها، فالطفل عندما يدير وجهه يحتفظ بصورة أمه وهي تبتسم، وقد يكرّرها الذهن عدة مرات، قد يصوغ منها عدة صور، فهذه تسمّى: المعرفة الخيالية.
ثم ينتقل الإنسان إلى محطةٍ ثالثةٍ، وهي المعرفة الوهمية.
يمتلك الإنسان حاسة باطنية متوقدة تسمّى (الحدس)، ولا يخلو منها إنسانٌ، حتى الطفل وعمره سنة يملك هذه الحاسة، هذه الحاسة (حاسة الحدس) تنتزع من الصورة – صورة الأم وهي تبتسم – تنتزع منها معنى وجدانيًا وهو المحبة, من أين يكتشف الطفل محبة أمه؟ من صورة الابتسامة، من صورة التقبيل له، من صورة العناق له، فالطفل من دون أن يعلم، من دون أن يعرف، هو يمتلك حاسة سادسة وهي (حاسة الحدس)، هي التي تنتزع من الصورة – صورة الابتسامة – تنتزع منها هذا المعنى الوجداني، يعبر إلى قلبه من دون أن يشعر ألا وهو معنى المحبة.
ثم تنتقل النفس (تنتقل الروح) إلى المحطة الرابعة والأخيرة: وهي المعرفة العقلية.
والمعرفة العقلية تعني أن الروح تجمع عدة صور محسوسة وتستخرج من هذه الصور المحسوسة قاعدة عامة تسمى بـ(الكليات)، مثلاً: الطفل يتذكر عدة صور: صورة أن هناك أمًا تبتسم, صورة أن هناك أمًا تقبّل, صورة أنّ هناك أمًا تعانق، صورة أن هناك أمًا تعتني... إذا جمع الطفل وهو ابن سنة أو أقل هذه الصور في ذهنه تذكرها، استخرج منها قاعدة، وهي أن الأم تحب طفلها، كل أم تحب طفلها، هذه قاعدة كلية، وهذه القوة التي تستخرج القاعدة الكلية تسمّى بقوة العقل.
إذن هناك شخصية إحساسية للإنسان، وهذه الشخصية الإحساسية تمر بالإنسان بحركة دائرية فكرية عبر محطات يمر بها الإنسان: محطة الحس، محطة الخيال، محطة الوهم، ثم يصل إلى محطة العقل، وهذه الشخصية الإحساسية هي الأداة و الجهاز الذي يتحرّك به الإنسان ويكشف الأشياء، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} .
الأمر الرابع: نلاحظ أن القرآن الكريم يركز على السمع دائمًا أكثر من الحواس الأخرى، هناك أكثر من 130 آية في القرآن تركّز على السمع أكثر من أي حاسة أخرى، لماذا؟ {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ (يبدأ بالسمع) وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} وقال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} وقال تعالى: {أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ} , لماذا هذا التركيز على السمع؟!
لنكتتين:
1/ نكتة طبيعية.
2/ نكتة نفسية.
1/ أما النكتة الطبيعية:
فهو ما أقره علم الطب الحديث، أول حاسة تعمل لدى الإنسان حاسة السمع، وآخر حاسة تنطفئ لدى الإنسان حاسة السمع، الطفل وهو جنينٌ في بطن أمه في ظلمات ثلاث أول حاسة هي حاسة السمع تعمل لديه، ولذلك ورد في الروايات الشريفة أنه يستحب للأم الحامل أن تقرأ القرآن دائمًا وأن تتلو ذكر محمّدٍ وآل محمّدٍ؛ لأن حاسة السمع لدى الطفل هي التي تتلقى، وهي التي تعي، وهي التي تعتمد عليها في هذه الفترة شخصية الإنسان، وآخر حاسة هي السمع، فإذا وُضِعَ الميتُ في قبره وأسْدِلَ عليه الترابُ فقد البصرَ والشمَ والذوقَ واللمسَ ولكن بقي له السمعُ، فقد ورد في الروايات: "إنّ الميت ليسمع خفقَ نعال أهله وهم يغادرون قبره فتصيبه الحسرة والوحشة والآهة لأنّ أهله فارقوه"هذه النكتة الطبيعية لذكر السمع قبل الحواس الأخرى.
2/ وهناك نكتة نفسية في ذكر السمع:
السمع هو البوّابة المباشرة إلى الروح، كيف؟!
لاحظوا: كثيرٌ منا إذا جمع بين السمع والبصر يرى أنّ التأثير على الروح أكثر مما لو اقتصر على البصر، أنت إذا أخذت كتابًا تقرؤه، فإذا كنتَ تقرؤه بصوتٍ بحيث تسمع صوتك وأنت تقرأ يكون تأثيره على النفس وعلى رسوخ المعلومة أكثر مما لو قرأت الكتاب صامتًا، ولو استذكرت بعض الآيات القرآنية أو بعض الأبيات من الشعر بينك وبين نفسك فعندما تستذكرها صامتًا يكون أثر الاستذكار أقل مما لو استذكرتها وأنت تتكلم بها بحيث تسمع صوتك, السمع بوّابة مؤثرة على النفس، ولذلك يركّز القرآن على تأثير السمع على الروح، يقول: {وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} ، ويقول: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} ، ويقول القرآن الكريم: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ} ، ويقول القرآن: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
ولذلك إذا أرد الإنسان أن يتأثر قلبه فتح سمعه، وإذا أراد أن يسد على قلبه سد سمعه، لاحظوا القرآن الكريم ماذا يقول: {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ – لأنّ سد السمع يعني سد القلب –وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} ، ويقول القرآن الكريم: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} لأنكم إذا سمعتم القرآن سوف ينفذ إلى قلوبكم، السمع بوّابة إلى القلب، {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} لذلك اهتم القرآن الكريم بتأثير السمع على قلب الإنسان وعلى روح الإنسان.
هذه معالم الشخصية الإحساسية لدى الإنسان التي ذكرناها في المحور الأول .
يتبع ................