وقفت على الباب تنتظر ابنها . لقد تأخر عن البيت هذه الليلة . وكوفة مضطربة وأعظم ما يقلقها انتماء ابنها - بلال - الى تلك الطبقة المرتزقة ، الذين احترفوا العسكرية ، فلم يأبهوا لِمَ يقاتلون ، ومع من وضد من ؟ انما همهم الوحيد القتال في مقابل حفنة من الدراهم . حتى ان ابن زياد عندما دخل الكوفة وعد المقاتلين بزيادة في عطاءهم بمقدار عشرة ، ان هم جندوا لقتل سبط رسول الله ، فلم يسأله احد ، عشرة من اي شيء ، دراهم او دنانير ، او اي شيء آخر . فزادهم عشرة تمرات . وسكتوا ..
بعد انتظار طويل عادت الى البيت ولكنها ما اطمأنت . فعادت مرة اخرى ففتحت الباب واطلت على الزقاق فاذا بها ترى رجلا على الباب .
من انت وما شأنك ؟
هل لديك شربة من ماء ..
بادرت الى البيت لتأتي بالماء . وناولته .
شرب الماء وعادت العجوزة الى بيتها ثم عادت الى الباب من فرط قلقها على ابنها .. فرأت الرجل لايزال واقفا ..
ألم تشرب الماء .
بلى . انصرف الى بيتك .
فسكت ، ثم اعادت مثل ذلك ، فسكت ثم قالت في الثالثة .
سبحان الله يا عبد الله ! قم عافاك الله الى اهلك ، فانه لا يصلح لك الجلوس على بابي ولا أحله لك .
فقام وقال : يا أمة الله مالي في .. هذا المصر اهل ولاعشيرة ، فهل لك في أجر ومعروف ، ولعلي مكافيك بعد هذا اليوم ، قالت يا عبد الله وما ذاك . قال : انا مسلم بن عقيل ، كذبني هؤلاء القوم وغروني واخرجوني .
قالت : وتكاد الدهشة تعقل لسانها , أنت مسلم ؟
قال : نعم .
قالت : أدخل .
رحبت طوعة بالضيف الكريم ، بالرغم من معرفتها بالعاقبة التي تنتظرها .. واوته الى بيت من بيوت الدار مهجور .. وقدمت له الطعام فلم يذق منه شيئا .. لقد كان قلب مسلم مشغولا يومئذ عن الطعام . كان يفكر في مصير هذه الامة التي سقطت في اشراك الشيطان . كيف خذلت امامها . وبايعت اعدائها . ونهضت للدفاع عن الباطل بدل الجهاد من اجل الحق . ولكن مسلم ربيب علي بن أبي طالب لم يكن من اولئك النمط من السياسيين الذين ينهارون عند النكسة . او يسمحون للهزيمة ان تتسرب الى نفوسهم مع ارهاصات التراجع .. كان صلب الايمان نافذ البصيرة . كان جهاده انعكاسا لرؤيته الى الدنيا ، وانها دار ابتلاء ، وان الاخرة لهي الحيوان . وكان يستمد صلابته وشجاعته من ايمانه بالله . وباليوم الآخر .
لو كان اي شخص آخر غير مسلم يعيش في مدينة كالكوفة انقلبت عليه ، لكان اول ما يفكر فيه الهرب . او الاستسلام للطاغية . او حتى التسليم لقدره والاستعداد للقتل بلا مقاومة .
إلا ان مسلما - عليه السلام - عقد عزمه على مواصلة الكفاح . واشتغل طيلة الليل بالعبادة . وتزود من نمير الحب الالهي فيضا رويا ، جعله يشتاق الى لقاء ربه ، وقالوا ان عينه هوَّمت قليلا ، فاذا به يرى - فيما يرى النائم عمه - الامام امير المؤمنين - فقال له يابن اخي انت ضيفنا في الليلة القادمة . فلما انتبه من النوم عاد الى مرحاب العبادة حتى إذا صلى فريضة الفجر سمع وقع حوافر الخيل .
اما طوعة فقد هجر عينها الكرمى وانشغل بالها بالضيف الكبير ، فكانت تتردد على غرفته بين الحين والآخر ، تطمئن على سلامته . فانتبه ولدها الذي عاد الى البيت بعد ان مضى هزيع من الليل . وعاد وهو يحلم بجائزة الأمير لمن كشف عن مخبأ مسلم . فوسوس اليه الشيطان فسأل أمه : قائلا :
أماه مالي أراك تكثرين التردد الى تلك الغرفة . فلم تملك الأم لسانها واخبرها بأمر مسلم ، بعد ان أخذ منها العهود الموثقة .. ولكن النفس الأمارة بالسوء جعلت الولد العاق يستغل فرصة انشغال امه بصلاة الفجر ويتسلل الى امارة الكوفة ويخبر عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث بمكان مسلم ..
فجاء عبد الرحمن الى أبيه ، وهو احد جلاوزة النظام ، وكان جالسا عبد ابن زياد ، فساره بأمر مسلم . ولكن الطاغية تنبه الى الحديث الذي دار بينهما فأمر الاشعث بان يقوم ويأتي به من ساعته .
ارتاعت طوعة لما سمعت صهيل الخيول يقترب من بيتها .. فهرولت الى مسلم قائلة : جاءك القوم من حيث تحذر . ولكن مسلم قال لها بكل سكينة : لا عليك ناوليني لامة حربي .. وماهي الا لحظات حتى تحول مسلم من راهب الليل الى فارس النهار . ودخلت الخيل دار طوعة .
لقد ندب ابن زياد محمد بن الاشعث للقبض على مسلم . وارسل معه سرية عسكرية . وبدت المهمة في غاية السهولة عندهم . فها هو مسلم شخص واحد . مختبأ في بيت عجوز استعدادا للفرار من الكوفة - في زعمهم - وقد اجهدته أيام محاصرته لدار الأمارة ، ذلك الحصار الفاشل الذي يلحق الهزيمة النفسية باكبر بطل . فكيف برجل غريب كمسلم ..
ان كل ظروف الاستسلام اجتمعت على مسلم في تلك الساعة ، ولكن مسلم الرجل الرباني الذي نذر نفسه لله منذ اول حياته . لن يستسلم - انه يطلب الشهادة - ولكن اية شهادة . شهادة الابطال في المعركة . وليس موت الاذلاء في زوايا السجون .
ما مرت إلا لحظات حتى طرد مسلم قوات محمد بن الاشعث الى خارج الدار . ثم امعن فيهم قتلا وجراحا ..
كان يقاتل بكل طمأنينة وهيمنة . وكان يرتجز ويقول :
اقسمت لا اقتل إلا حرا وان رأيت الموت شيئا نكرا
ويخلط البارد سخنا حرا رد شعاع الشمس فاستقرا
كل امرء يوما ملاق شرا اخاف ان اكذب او اغرا (4)
فلما عجز اعداؤه من مقاومته . اغروا نساءهم بان يشعلن النار في اطنان القصب ويلقينها عليه من فوق الاسطح .
كانت افنية الدور والازقة المتداخلة اسوء موقع للقتال .. ولكن ابن عقيل ابدى بطولة نادرة في الحرب . حيث كان يأخذ بتلابيب الرجل من اعداءه ، ويرمي به الى السطوح المجاورة .
وانهارت مقاومة السرية العسكرية . فارسل محمد بن الاشعث الى ابن زياد يطلب المدد ..
وكان ابن زياد على احر من الجمرة لمعرفة وقائع المعركة . فلما بلغه استنجاد ابن الاشعث ارسل اليه يقول : بعثناك الى رجل واحد لتأتينا به ، فثلم في اصحابك ثلمة عظيمة ، فكيف إذا ارسلناك الى غيره ؟ فارسل ابن الاشعث ايها الامير ! اتظن انك بعثتني الى بقال من بقالي الكوفة ، او الى جرمقاني من جرامقة البصرة ، اولم تعلم - ايها الأمير - انك بعثتني الى اسد ضرغام ، وسيف حسام ، في كف بطل همام ، من آل خير الأنام .
فارسل اليه ابن زياد ان اعطه الامان فانك لا تقدر عليه إلا به .
لقد استبسل مسلم في ذلك اليوم بالرغم من وحدته وتظافر الاعداء عليه . وغدرهم به حتى جعل اعداءه في حيرة .
وكان سر استبساله استخفافه بالموت واستعداده للقاء ربه ، فكان إذا حمل عليهم ينشد ويقول :
هو الموت فاصنع ويك ما أنت صانع
فانت لكأس الموت لاشك جارع
فصبر لأمر الله جل جلاله
فحكم قضاء الله في الخلق ذائع (5)
وتبادل وبكر بن حمران ضربتين . فضرب بكر فم مسلم فقطع شفته العليا واسرع السيف في السفلى ، وفصلت له ثنيتاه وضرب مسلم في رأسه ضربة منكرة وثناه بأخرى على حبل العاتق .
ثم تكاثروا عليه ، واثخنوه بالحجارة وباطنان القصب التي اشعلوها نارا والقوها عليه من فوق الاسطح ، فعجز عن القتال ، واستند الى جنب الدار فقال له ابن الاشعث لك الأمان . فقال : امن انا ؟
قال : نعم ، فقال للقوم الذين معه الي الأمان ؟ قال القوم له : نعم . فقال مسلم : اما لولم تأمنوني ما وضعت يدي في ايديكم ، فأتى ببغلة فحمل عليها واجتمعوا حوله ونزعوا سيفه ، وهناك احس مسلم بالغدر فدمعت عيناه ثم قال : هذا اول الغدر فقال له محمد بن الاشعث : ارجو ان لا يكون عليك بأس قال : وما هو الا الرجاء اين امانكم ؟ انا لله وانا اليه راجعون وبكى فقال له عبيد الله بن العباس : ان من يطلب مثل الذي طلبت اذا نزل به مثل ما نزل بك لم يبك ، قال والله اني ما لنفسي بكيت ، ولا لها من القتل أرثي ، وان كنت لم احب لها طرفة عين تلفا ، ولكني ابكي لأهلي المقبلين ، اني أبكي للحسين وآل الحسين (ع) (6)
ثم وصّى الى بعض من حوله ان يبلغوا الامام الحسين - عليه السلام - الرسالة التالية .
ارجع فداك أبي وأمي بأهل بيتك ولا يغررك اهل الكوفة ، فانهم اصحاب أبيك الذي كان يتمنى فراقهم بالموت او القتل ، ان اهل الكوفة قد كذبوك وليس لمكذوب رأي (7)
ان ايمان ابن عقيل وصدق يقينه ، ووثيق صلته بالله سبحانه وبالنبي والامام - كل ذلك جعله يتسامى على الظروف الصعبة التي عاكسته ، والمأسي التي توالت عليه ، فبقي صامدا رغم الجراح والأسر واقتراب الأجل منه ، فعلى باب قصر الأمارة حيث انتظر ابن الاشعث حتى يؤذن له بالدخول . كان يقف ايضا واحد من اولئك المتملقين ، الذين استحبوا الدنيا على الحياة الآخرة . واسمه مسلم بن عروة وكان عنده قُلة ماء . وكان مسلم آنئذ مثخنا بالجراح ، والوقت صيف . وقد زاده القتال والمجالدة والنزف عطشا . فاشار الى الماء وقال : اسقوني من هذا الماء ؟
فقال له ابن عروة : اتراها ما ابردها لا والله لا تذوق منها قطرة ابدا حتى تذوق الحميم في نار جهنم - فقال له مسلم بن عقيل ، بعد ان تعرف عليه : لامك الثكل ، ما اجفاك واقطعك واقسى قلبك ، انت يا ابن باهلة ، اولى بالحميم والخلود في نار جهنم . (8)
ثم جلس سيدنا مسلم ، فجيء اليه بماء وقدح ، فلما اراد ان يشرب امتلاء القدح دما . فصب الماء وكرر المحاولة حتى سقطت ثناياه في القدح فقال : الحمد لله لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته ، ثم اُدخل على الطاغية ابن زياد . فلم يسلم عليه .
ان السلطة الجائرة التي تمثلت في ابن زياد واميره يزيد ، لم تكن عند مسلم سوى فتنة ، اوليست الدنيا كلها عند المؤمنين متاع الغرور . واذا كان الانسان قادما على ربه بوثيقة الشهادة فلماذا الخوف ؟! وأهل بيت الرسالة - عليهم السلام - وكل من رباه الوحي على حب الشهادة ، واصطفاه ربه للدفاع عن قيم الحق اولى الناس باقتحام غمار الموت طلبا لمرضاة ربهم .
وها هو مسلم يغدر به انصاره ، ثم يؤسر وتتكاثر عليه جروحه ، ولكنه تراه كالجبل الاشم ، يقارع الطاغية ابن زياد بالحجة الدامغة . تعالوا نستمع اليه وهو يرد على سلطان جائر يريد قتله . لعلنا نتخذه عبرة لانفسنا ودرسا . فلا تخلو الدنيا من جبابرة اشقياء . فهل نكون المدافعين عن الدين الاولياء كمسلم بن عقيل ، إذا لنستمع الى كلمات مسلم التي تفيض ايمانا ويقينا .
توجه الطاغية ابن زياد الى مسلم عائبا عليه .
فقال : إيه ابن عقيل ، أتيت الناس ، وهم جمع ، شتت بينهم ، وفرقت كلمتهم ، وحملت بعضهم على بعض .
هكذا تشبث الطاغية بالأمن شأن كل الجبابرة في التاريخ ، الذين يتهمون الأحرار بأنهم ضد الأمن والوحدة . ولكن مسلما شأنه شأن كل المصلحين ركز على قيم الحق والحرية وحقوق الانسان فقال : كلا لست لذلك أتيت ، و لكن اهل المصر زعموا ان اباك قتل خيارهم ، وسفك دماءهم ، وعمل فيهم اعمال كسرى وقيصر ، فأتيناهم لنأمر بالعدل وندعو الى الكتاب .
فلما سقط في يد الطاغية ، وعرف قوة حجة مسلم . لم يجد بدا من ان يتشبث باسلوب التهمة الرخيصة ، والتي الصقها بشخصية مسلم ، ذلك العالم المجاهد فقال :
" وما انت وذاك يا فاسق ؟ لم لم تعمل فيهم بذلك اذا انت بالمدينة تشرب الخمر " .
ولكن مسلم بن عقيل - سلام الله عليه - رده بحجته البالغة ، اذ رد التهمة عن نفسه اولا وبابن زياد لا يتهمه إلا كذبا . وثانيا : بين ان سفك دماء المسلمين اعظم ذنبا ، وان من لا يتورَّع عن ذلك ، هو الذي يشرب الخمر فقال عليه السلام :
" انا اشرب الخمر ؟
اما - والله - ان الله ليعلم انك غير صادق ، وانك قد قلت بغير علم ، واني لست كما ذكرت ، وانك احق بشرب الخمر مني ، واولى بها ، من يلغ في دماء المسلمين ولغا ، فيقتل النفس التي حرم الله قتلها ، ويسفك الدم الذي حرم الله على الغصب والعداوة وسوء الظن وهو يلهو ويلعب كان لم يصنع شيئا .
هكذا حاكم المجاهد الصلب ، والمؤمن الصابر عند البأس ، مسلم بن عقيل ، حاكم النظام الأموي في دار امارة الكوفة مما جعل ابن زياد يبحث في ذاكرته . عن تلك الافكار القدرية التي طالما يبرر الطغاة سلطتهم بها ، زاعمين انه لولا ان سلطتهم شرعية لما اذن الله لها ان تتحقق مع انهم اعرف من غيرهم ، بمدى بعدهم عن الله و الوحي والرسول والقيم الانسانية . فقال ابن زياد :
" يا فاسق ان نفسك منتك ما حال الله دونه ولم يرك الله له أهلا "
وكان مسلم لذلك الطاغية بالمرصاد ، فرده بقوة الحق الذي لا يقهر وقال : -
فمن أهله إذا لم نكن نحن أهله ؟
فقال ابن زياد : امير المؤمنين يزيد
فقال مسلم : الحمد لله على كل حال ، رضينا بالله حكما بيننا وبينكم ، وهنا بهت الذي كفر وعرف انه لن يغلب مسلما بالمنطق فقال :
" قتلني الله ان لم اقتلك قتلة لم يقتلها احد في الاسلام من الناس "
فقال له مسلم : اما انك احق من احدث في الاسلام مالم يكن ، وانك لاتدع سوء القتلة وقبح المثلة وخبث السيرة ولؤم الغلبة لا احد اولى بها منك .
وانتهى الحوار واخذ ابن زياد يشتم مسلما والحسين وعليا وعقيلا عليهم السلام ومسلم لا يكلمه ..
يتبع