سعوديون في أمريكا - محمد الحسين
تعرفت عليها بعد وصولي إلى شيكاغو للدراسة بأيام قليلة. منذ أن وقع نظري عليها اشتعلت في خاطري شرارة الاعجاب. كنت ألتقي بها كل يوم، تارة في الطريق، وتارة أخرى في الجامعة. ومع الأيام تحول الإعجاب إلى تعلق واشتياق. صرت أراها كلما خرجت من السكن متوجها للجامعة تنتظرني عند زاوية الطريق لنذهب سوية. كانت دائماً هناك. لم تخلف موعدنا أبداً. كلما رأتني قادماً نحوها غمزتني بعينيها العسليتين لترسم على وجهي ابتسامة الفرح بلقائها. وعندما أفرغ من حصص الدراسة، كانت تنتظرني بالخارج لترافقني بسرور إلى السكن. صديقتي الأمركية العزيزة.. هي الحافلة. وقد أسرتني لأنني رأيت من خلالها فاعلية النقل العام في حياة المدينة.
قد يصعب على زائر شيكاغو أن يصدق أنها ثالث أكبر مدينة في أمريكا. فهذه المدينة ذات المساحة الشاسعة والتعداد السكاني الكبير تجعلك تحسب انها قرية صغيرة بسبب شبكة النقل العام الضخمة فيها. ففي كل يوم، تحوم في شوارع المدينة 1,780 حافلة نقل عام قاطعة مسافة تقدر بـ 230,000 كم لتنقل الركاب عبر 140 مسار مختلف. ولكن القصة لا تنتهي عند الباصات، ففي شيكاغو شبكة قطارات نقل داخلي مهولة مقسمة إلى 8 مسارات رئيسية. وفي كل يوم تقطع القطارات 285,000 كم لإيصال الركاب لشتى أنحاء المدينة. ولكن هل مستوى الخدمة في النقل العام يشبه مستوى الخدمة في العالم الثالث؟ كل ما في النقل العام في شيكاغو يشعرك بمستوى خدمة راقٍ جداً. فمثلاً، إذا أردت أن تعرف كيف تتنقل من مكان إلى آخر، فكل ما عليك فعله هو البحث في محرك جوجل ليعلمك بأقرب المسارات لك وبتوقيت وصول الحافلات بشكل بالغ الدقة. كما يمكنك من خلال برنامج في هاتفك أن تراقب اقتراب الحافلة من نقطة وقوفك لتقدر المدة المتبقية لوصولها. وفي كل مسار يُشغًّل عدد من الحافلات لاستيعاب أعداد الركاب الكبيرة. فمثلاً المسار 172، وهو المسار الذي أسلكه من سكني إلى الجامعة، تمر خلاله حافلة كل ربع ساعة، ليسهل بذلك الاعتماد على النقل العام بشكل كامل، وهو ما يبرر استغناء الكثير من السكان عن السيارات.
أما الخدمات في الحافلة فلا تقلّ مستوىً. فالحافلات دائماً نظيفة ومهيئة. وفي مقدمة كل حافلة تجد معلومات حول مسارها في لوحة الكترونية مضيئة. وفي كل حافلة كاميرات أمن متفرقة. وعند دخول الراكب، كل ما عليه هو تمرير بطاقة الراكب في الآلة ليسحب من حسابه قيمة الركوب، في عملية تستغرق ثانية واحدة، لتسهل بذلك عملية الدفع. كما أن لذوي الاحتياجات الخاصة نصيب كبير من الخدمات. فكلما توقفت الحافلة في مكان، تُسمع رسالة صوتية مسجلة حول مسارها ومكانها الحالي، مما يساعد فاقدي البصر. كما أن الحافلة حال توقفها، تهبط قليلا بواسطة نظام هيدروليك لتسهيل عملية النزول والصعود. أما أصحاب الكرسي المتحرك، فيمكن لهم الدخول والخروج بكل سهولة، لأن لهم مساراً يفتحه السائق أوتوماتيكياً ليتحول إلى جسر بين الباص والرصيف، فيدخل الراكب بكرسيه ويجلس في المنطقة المخصصة.
أعلم أننا جميعاً رأينا وسمعنا بمثل هذه الخدمات، بل وأكثر منها، في دول متقدمة. ولكن لأني عشت الفرق الذي يصنعه توفير خدمة نقل عام جيدة، أحببت أن أنقل هذه الرسالة «الشقيرية» المحتوى،علّها تحرك ساكناً ونرى مثل هذه الخدمات في بلادنا. تخدم شبكة النقل في شيكاغو ما يقرب من 3.8 مليون نسمة، فما هي خدمات النقل العام في مدينة مثل الرياض ذات الـ 6.7 مليون نسمة فضلا عن باقي مدن المملكة؟
عذراً.. فقد حان وقت اللقاء.. بصديقتي الأمريكية.