اللهم صل على محمد و آل محمد
﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾..
إن الحديث بدأ عن إرسال النَبي ( ص)، وعن فضل اللهِ عزَ وجل، وإذا بالآية تنتقل إلى مسألة اليَهود الذينَ حُملوا التوراة ثمَّ لم يحملوها؛ فما هيَّ العلاقة بين ذِكر اليهود في هذهِ السورة وبينَ إرسال النَبي (ص) لهذهِ الأمة؟..
-﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾.. أي كُلفوا وخوطبوا بآيات اللهِ عزَ وجل في التوراة، ولكنهم في مقام العَمل لم يكونوا عاملينَ بما جاء في التوراة.
-﴿كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾.. القُرآن الكريم يشبه اليهود تشبيهاً لاذعاً، يشبههم بالحمار الذي يَحمِلُ الأسفار؛ أي الكُتب.. فالحِمار الذي يحمل كتباً على ظهره، لا يفقهُ شيئاً منها، ولا يعملُ بما فيها.
إن القرآن الكريم يشبهُ العالم غير العامل؛ سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو مُسلِماً بالحِمار الذي يحملُ أسفاراً؛ هذا هو وجه الرَبط.. حيث أننا نفهم من السياق -واللهُ العالم- أن القرآن الكريم يقول: نحنُ بعثنا في الأميين رسولاً، ولكن المسلمين أيضاً إذا لم يعملوا بما في القرآن الكريم؛ مثلهم مَثل اليهود وعُلماء اليهود الذينَ هُم كالحمار الذي يحملُ أسفاراً.
الدرس العملي:
1. ليسَ المطلوب جَمع المعلومات وتراكمها، وهو ما يُعبر عنهُ هذهِ الأيام بـ "التخمة الثقافية".. إنما المُهم هو ترجمة هذهِ الأفكار وهذهِ العلوم إلى عَملٍ وإلى حَركةٍ في الحياة.. وعليه، فإن كُلّ إنسانٍ يجب أن يُحاسبُ نفسه.
2. إن الذهاب إلى المساجد، والاستماع إلى خُطب الجُمعة؛ مُقدِمة للإثارة الباطنية.. ولكن ليسَ المُهم أن ينتقل الكلام إلى طبلة الأذن، ثمَّ تنتهي المسألة؛ إنما المُهم هو ما وراء الأُذن؛ ألا وهو الفِكر!..
3. إن كل فرد يجب أن يعمل جَرداً سريعاً في باطنه، ويرى نسبة المعلومات التي لم يعمل بها.. فالبعض يكتشف بعد سنوات أنَّ صلاتهُ باطلة، وقراءتهُ خاطِئة!.. هُنا لابد أن نُفرق بينَ القاصِرِ والمُقصر، حيث أن المُقصّر في بعض الحالات لا يُعذر حتى ولو كانَ جاهلاً، لأنه عندما يُسأل يومَ القيامة عن سبب ارتكابه بعض الأخطاء أو المحرمات؛ فإنْ أراد الدفاع عن نفسه قائلاً: يا رَب، ما كُنتُ أعلم!.. يأتيه الجواب من جانب العِزةِ والجلال: هلا تعلمت؛ فهذا ليسَ بُعذر!.. وعليه، فإن:
أ-المعلومات التي لم نعلمها؛ قد يُسامحنا رب العالمين فيها.
ب-المعلومات التي لا نعمل بها، فيها حساب.
ج- إن نسبة المعلومات التي لا نَعمل بها كثيرة!.. والذينَ يرتكبونَ المعاصي كُلهم أو جُلّهم لا يجهلون الحُرمة؛ فهذه الأيام من ذا الذي لا يَعلم حُرمة: الغيبةِ، والغناءِ، والنَظر، وغيرهِ من المُحرمات؟..
فإذن، إن كُل معلومةٍ لا نَعملُ بها: أي الذي يعلم الحرام ويرتكبه؛ ويعلم الواجب ولا يعمل به، هو في هذهِ المسألة كمثلِ الحِمارِ يحملُ أسفاراً!.. لذا المؤمن يحاول أن يجرد هذه النسبة.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾..
-﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا﴾.. إن رب العالمين له مواقف متعددة من اليهود وردت في القُرآن الكريم، حتى أنَّ القُرآن لا يُساوي بينَ اليهود والنصارى، كما في قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى﴾؛هذا الأذى وهذا العداء، هو الذي ملأ قلب موسى (عليه السلام) من القَيح على اليهود الذينّ آذوه كما يقول القرآن الكريم.. وهذهِ الصفة الشيطانية باقية إلى يَومنا هذا، عَبراً بالنَبي الخاتم في المدينة.. فالذين آذوا النَبي (ص) كثيراً هم: اليهود، والمنافقون، والمشركون.. هذهِ هي حالةُ اليهود طِوالَ التأريخ، ولهذا فإن المعركة الكبرى للإمام المهدي (عليهِ السلام) في زمان الظهور ستكون معَ هؤلاء، وبَيتَ المَقدس في آخر الزمان هو محور الأحداث الكُبرى.. حيث أننا لم نَسمع في رواياتِ أهل البيت (عليهم السلام) أن هناك معارك ستحدث في مكة، إنما خروج الإمام يكون من مكة، ولكن يبدو أن محور المواجهة والتماس سيكون معَ أعداءِ اللهِ تعالى في القُدس.
-﴿إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِفَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾..
أولاً: ﴿إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِفَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.. أي يا من تدعون أنّكم شَعب الله المختار، تمنوا الموت إن كُنتم صادقين!.. حيث أن مقياس القُربِ من اللهِ عزَ وجل، هي حالة الإنسان عند لقاءِ رَبه.. فبعض العصاة عندهم عقدة الحقارة من النفس، لأنهم عندما يتوبون يشكون في المغفرة، لذا دائماً يعيشون هذا الهاجس.. ولكن بعدَ فترة من التوبة وعمل الصالحات، هناك من يعيش حالة الأمل والتضخم الكاذب، فيرى نفسهُ أنّهُ قد بَلغَ ما بَلغ، وهو في الأمس القريب كانَ من أصحاب الكبائر!.. وعليه، فإن الذي يُريد أن يَعلم دقة حالته؛ فليكتشف نفسهُ في مكانين:
المكان الأول: المقابر.. أي الموت، فالإنسان الذي يخافُ من ذِكر الموت، والذي يخافُ من البرزخ وما وراء البرزخ؛ هذا الإنسان يخافُ من اللقاء الإلهي!.. ويمكن تشبيهه بالإنسان الذي أُلقي القبض عليه خارج وطنه، فهذا عندما يركب الطائِرة وفي يديه الأغلال؛ تكون حالته: الهَلعِ، والوجل.. بينما الإنسان الذي لا يخاف من الموت، فيمكن تشبيهه بالإنسان المسافر إلى بلده كي تُزف إليه عروسه.. وشتان ما بين الحالتين:
الحالة الأولى: إن الشخص الذي أُلقي القبض عليه، يكون جالساً على الكرسي يتململ يميناً وشِمالاً وهو يرتجف من الخوف؛ لأنه يعلم أنه بمجرد وصوله إلى المطار سيكون مصيره السجن!.. وكذلك الأمر بالنسبة للإنسان الذي يخافُ من الموت: هذا الإنسان على الأقل مُتَهَم، إن لم يَكن مُداناً؛ فهو خائف لأنّهُ لا يَعلم ما الذي سيجري عليه، أو يعلم ما سيجري عليهِ من العذاب.. فتاركُ الصلاة، وتارك الواجب؛ من الطبيعي أن يكون المَوت بالنسبةِ لهُ أول العذاب؛ لذا فإنه لا يحب ذكر الموت.. ومن هنا فإن البعض يُفاجأ بالموت، فيذهب دون أن يكتب وصية، ودون أن يوصي بالثلث، ودون أن يعين وصياً.
الحالة الثانية: أما الشخص الثاني، فإنه يكون فرحاً مستبشراً؛ لأنه سيلتقي بمن يُحب!.. والمؤمن أيضاً هذهِ حالتهُ في الدُنيا: أي أنه يفرح عندما يقترب أجله؛ لأنه سيلتقي بمحبوبه!.. أحد المؤمنين كانَ يعتقد أنه مصاب بمرضٍ خَبيث، ولكن عندما سمع أن النتيجة سَلبية؛ أي أن هذا المرض غير موجود؛ عاشَ في نفسهِ شيئاً منَ الضِيق!.. لأنه يَعلم لو أنَّ التقرير كان إيجابياً؛ فإن ذلك يبعثُ في قلبه الأمل لسرعة اللقاء بالله عز وجل!.. هذا منطق الإنسان الذي يحب اللقاء الإلهي!..
الدرس العملي:
إن الأمراض الخبيثة التي تأخذ مُدة من الزمن، تكون نِعمة للبعض؛ وذلك للأسباب التالية:
1. إن المريض خلال هذه المدة التي يُكابد فيها المرض: يُلملم أمورهُ، ويوصي بوصاياه؛ فيموت وهو مُستعد!..
2. إن الأمراض الطويلة وآلام السنين؛ هي كفارة للذنوب، وأيضاً استعدادٌ للموت.
3. لو كُشِفَ الغِطاء للإنسان، وعلم ما يُعطى من درجات يوم القيامة على بلائه؛ لشكر اللهَ عز وجل على بعض البلاءات، كالمرض والفقر!.. فقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (إنّ الله ليعتذر إلى عبده المؤمن المحتاج كان في الدنيا، كما يعتذر الأخ إلى أخيه، فيقول: لا وعزّتي، ما أفقرتك لهوانٍ بك عليّ!.. فارفع هذا الغطاء فانظر ما عوّضتك من الدنيا، فيكشف الغطاء فينظر إلى ما عوّضه الله من الدنيا، فيقول: ما يضرني ما منعتني مع ما عوّضتني).. وفي رواية أخرى عنه (عليه السلام) أنه قال: (إنّ الربّ ليلي حساب المؤمن فيقول: تعرف هذا الحساب؟.. فيقول: لا يا رب!.. فيقول: دعوتني في ليلة كذا وكذا في كذا وكذا، فذخرتها لك، قال: فممّا يرى من عظمة ثواب الله يقول: يا ربّ!.. ليت أنّك لم تكن عجّلت لي شيئاً، وادّخرته لي).
فإذن، من أرادَ أن يكتشف نفسهُ، فلينظر إلى حالته عند ذكر الموت وفي المقابر؛ لأنها كاشفة للبواطن.
....
يُتبع