السلام
... حوار بين الإنسان والقبر ...
بينما كان القبر يضمه بعنف قاذفا ً بحليب أمه من أحشائه وإذا بقبره يموج به ومن ثم تهادى لمسامعه صوت القبر منادياً : كيف أقمت يا ساكني ...
صرخ الفتى رافعاً صوته : إنها أسوء إقامة .. المكان مظلم أني محفوفاً بالتراب .. أني أكره التراب . أكرهه
أجابه القبر هازئاً : ولكنك لن تسكن غيري ...
صرخ بوجه القبر : أبتعد عني ألا تسمع ؟ أني أكره التراب وأنت تضمني بين ثناياك بشدة .. أبتعد عني أيها القبر اللعين .. أبتعد ..
قهقه القبر ضاحكاً ذاك منك بعيد يا عزيزي ... وضمه من جديد بقسوة ...
عاد الفتى يتحدث بألم : أنك تؤلمني بشدة و...وكذلك أن التراب يثير اشمئزازي ..
أجابه القبر بسخرية لاذعة : أيا هذا الفتى المدلل ما بك تتحدث هكذا؟ ..
صرخ الفتى : لأنك تؤلمني وترابك هذا يلتصق بجسدي وأنا كما قلت لك سابقاً أكره التراب ..
أجابه القبر : أنت يا هذا لست بأفضل ممن سبقوك .. لقد سكنني الفقير والغني .. الملك والمملوك السعيد والبائس الصالح والطالح .. وأنت يا هذا تدمر ..
ثار الفتى قائلاً : لما لا أتدمر أنني أعلا مقاماً من أن أسكن هنا في هذا المكان الموحش المظلم ..
ماج القبر بالفتى : أنت السبب في ذلك أنت وأعمالك السبب بظلامي ...
أجاب الفتى غاضباً : وماذا فعلت أنا كي تصبح مظلماً وموحشاً وكذا تعتصرني بشدة ...
أجاب القبر : أو لا تقول ما لم أفعل .. فأنت فعلت مالا يفعل ..
أجاب الفتى : هلاّ أخبرتني يا قبري العزيز عن ذالك ؟؟
أجاب القبر بتهكم وسخرية : على رسلك يا عزيزي فسأخبرك بكل ما تريد أن تسمع من ما هو يجلب العار والخزي ...
قال الفتى بنفاذ صبر : أخبرني الآن فأنا لا أكاد أتحمل ضمك لي وقرب هذا التراب المقزز مني ...
أجاب القبر : هذا ولم أريك ما تستحق بعد ...
الفتى : وهل هناك أشد من هذا ؟..
القبر : نعم هناك أشد وأقسى .. ثم أن هناك ما هو أصعب على المرء هناك لقاء الله سبحانه كيف يا هذا ستلقاه سبحانه وأنت محملاً بأنواع المعاصي والذنوب ..
أجاب الفتى ساخراً : أوه إلى هذا الحد .. ماذا فعلت أنا لتقول كهذا الحديث ...
أجاب القبر بحدة : لقد فعلت ما يغضب الرحمن . وأمنت بالدنيا كل أمان ..
أجاب الفتى : حسناً لا تطل الحديث أخبرني سريعاً ماذا فعلت أم أنك لا تجد جواباً يعلل التصاقك بي ..
عاد صوت زمجرة القبر لمسامع الفتى : بلى أجد الجواب ..أتريد أن تسمع سريعاً حسنا ً لك ما تريد ..
أنت يا هذا لقد كنت تسير في طريقاً مظلمة لم يقربها النور . ولو لمرة واحدة إن حياتك لم تكن سوى لعب ولهو حتى صلاتك لم تكن صلاة بل كانت أمراً رتيباً أعتدت على عمله يومياً . والدتك و والدك كيف كانت معاملتك لهما ألم تكن تهزءا منهما ألم تقل يوماً لوالدتك أنها جاهلة وعجوز شمطاء تقيدها خرافة العادات والتقاليد متناسياً قوله تعالى بحقهما في قوله ﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا ألا إياه وبالولدين إحسنا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً﴾ ..
أجاب الفتى بحدة : أنت لا تعلم . لا تعلم شي أطلاقاً هذان ليس إلا نقمة حلت عليّ جعلتهما والدين لي . لطالما كانا يهينانني أمام الناس وما أعظم قسوتهما علي ّ طيلة حياتهما لم يكنا لي أية محبة ً تذكر . وتقول لي الآن أن أحترمهما ..
أجاب القبر صارخاً بوجه الفتى : أن الله أخبرنا بكتابه الكريم أن مهما فعلا الوالدين لأبنهما فلا بد له من طاعتها إلا إذا أمراه بمعصية الله فهذا شيء أخر ففي قوله ﴿ وإن جاهداك على أن تشرك بىِ ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فىِ الدنيامعروفاً ﴾. ثم أنك أنت ناهيك عن معصيتك والديك كنت تستهزئ بالناس وأيضاً متناسياً قوله تعالى ﴿ يأيها الذين ء امنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ﴾
الفتى وهو يبعد التراب عن جسده : بالله عليك هلا ّ أخبرتني ممن الناس لا يهزأ في هذه الأيام ..
أجاب القبر : كثيرون هم الذين أطاعوا الله ورسوله وصرفوا ناظريهم عن بريق ولمعان الدنيا ..
أجاب الفتى ضاحكاً : تتحدث وكأن الناس لازالت متمسكة بتلك الأهازيج السالفة ..
أجاب القبر غاضباً : أيها الفتى . أتصف شرع الله بالأهازيج السالفة . ما أعظم تلك الكلمات وهي تخرج من فيك . وما أعظم جرمك وذنبك أمام الله ..
وبعد هنيئة من الصمت عاد صوت القبر ولكن في هذه الأثناء عاد أكثر رعباً وإخافة في قلب الفتى وكان ينم عن سخرية لاذعة : يا فتى أتعلم لقد أطلت الحديث معك ولم أقدم لضيوفي القرى فمنذ أن علم ضيوفي بقدوم طعاماً جديد استبشروا فرحاً ..
ما أن أتم القبر حديثه حتى اكتسى الفتى ملامح الخوف والذعر وأكفهر وجهه ..
ثم سأل الفتى بتلعثم وهو موقن الإجابة سالفاً : أي .. أي طعـ طعام تقصد ؟..
أجاب القبر مستهزأً : طعاماً شهياً يقدم لضيوفي في كل مرة يسكنني ضيفاً جديد
طعمه مستساغ لهم لكم رايتهم يتلذذون في مضغه قطعة، قطعة .
أخفى الفتى وجهه بقطعة القماش البيضاء وأوصاله ترتعد خوفاً من القادم ثم قال : من . من هم ضيوفك أيها القبر أهناك أحد غيري هنا ؟..
أجاب القبر مقهقهاً : الآن أنت والتراب هنا ولكن بعد سويعات قليلة سترى ضيوفي
والذين هم الديدان والأفاعي وغيرهم . سوف تستمتع معهم كثيراً ..
التصقت شفتا الفتى و اصطكت أسنانه بعضها ببعض وخرجت من فمه كلمات متقطعة :
لـ ... لكـ لكن لـما .. لماذا ؟ ..
أجاب القبر : لقد أخبرتك سالفاً وكنت تجادلني والآن أأنت خائف ؟؟ لِما لم تخف حينما كنت تفعل تلك المعاصي وتتلذذ بفعلها لِما أخبرني لماذا أنت صامتاً لم لا تتحدث كما كنت تتحدث قبل لحظات أخبرني ثم أن الديدان والأفاعي لن تكون سوى البداية وأمامك طريقاً طويل من شتى أنواع العقوبات التي ستنالها ..
انزوى الفتى في أحدى زوايا القبر المظلمة وأخذ جسده يرتعد بعنف وكأن روحه تسل منه من جديد وعيناه تذرفان دماء ودموع تحرق ذاك الوجه ثم نطق قائلاً : أني نادم . نادماً على ما فعلت لم أكن أعي ما أفعل . آه أتمنى لو أني أعود مرة أخرى لدنيا كي أصلح ما أفسدت آه ..
تلا القبر قوله تعالى : ﴿ وأنفقوا من ما رزقنكم من قبل أن يأتِى أحدكم الموت فيقول رب لولآ أخرتنِى إلى أجل قريب فأصدق وأكن من الصلحين ﴾
اعتلت شهقات الفتى باكياً بعنف رافعاً يديه مناجياً ربه بكل خضوع وتذلل " اللهم إن مغفرتك أرجى من عملي ، وإن رحمتك أوسع من ذنبي . اللهم إن كان ذنبي عندك عظيم فعفوك أعظم من ذنبي ، اللهم إن لم أكن أهلاً أن ترحمني فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني ، لأنها وسعت كل شيء برحمتك يا أرحم الراحمين ..
ما أن فرغ من مناجاته حتى سقط رأسه متوسداً التراب ...
أنتقاذاتكم