تــــــــــــــــــــــــــااااااااااااااااااااااا اااااااااااابع
الحلب ( 2 )
أكبر مدينة في سوريا بعد دمشق، عدد نفوسها 448, 704 حسب إحصاء 1974م. وقد كانت وما زالت سوقاً تجارية ضخمة بحكم موقعها الجغرافي بين الشرق والغرب؛ فهي لا تبعد عن الحدود التركية بأكثر من خمسين كيلومتراً...
وهناك طريقان برّيان رئيسان يربطان بين حلب وتركيا، فهي خطة على الطريق إذن، يقف فيها المسافر بالسيارة ليستريح، ويقف فيها قطار الشرق السريع الذي يبدأ رحلته من بغداد إلى سوريا ومنها إلى تركيا وأوروبا. ومن قبلُ كانت الدوابّ تحمل المسافرين، وهم قد يمرون بها مروراً، وقد يستطيبون الإقامة فيها فيقضون بين ربوعها بعض الوقت.
وقد فتحها المسلمون سنة 16 هجرية، ودخلت فيما دخل فيها غيرها من البلاد الإسلامية إلى أن كانت سنة 333 فوصل إليها سيف الدولة الحمداني وأنشأ الدولة الحمدانية، وجعل عاصمتها حلب. وبذلك دخلت مدينة حلب في عهد جديد هو عهد أمجادها التي لم تشهد لها مثيلاً، وأصبحت مركزاً ثقافياً وشعرياً وعسكرياً من أعظم المراكز التي عرفها الإسلام، فمنها انطلقت الجيوش بقيادة سيف الدولة لحماية البلاد من هجوم البيزنطيين، وله معهم معارك هائلة كان سيف الدولة فيها بطلاً من الأبطال، تلك المعارك التي خلدها الشاعران العربيّان المتنبي وأبو فراس الحمداني.
وكذلك أصبحت حلب ملتقى كبار الشعراء الذين وفدوا على بلاط سيف الدولة، كما أصبحت ملتقى رجال العلم والفكر الذين وجدوا في سيف الدولة حامياً لهم ومشجّعاً.
وسيف الدولة شيعيّ، والدولة الحمدانية شيعية، لذلك انتشر التشيع في جميع الانحاء التي سيطرت عليها هذه الدولة.
ولكن التشيع كان قد دخل قبل الحمدانيين، وإنما قوي وانتشر على عهدهم. وقد أشار ابن كثير الشامي إلى أن التشيع أيام سيف الدولة كان رائجاً رواجاً تاماً.
وقال ابن بطلان الطبيب في رسالة له كتبها إلى هلال بن المحسّن بن إبراهيم الصابي في بغداد يذكر فيها ما رآه في سفره، وأوردها ابن القِفطي في تاريخ الحكماء، وأورد بعضها ياقوت في معجم البلدان. قال ابن بطلان عند ذكر وصوله إلى حلب ما لفظه: « والفقهاء فيها يُفتون على مذهب الإمامية » قال ياقوت: « وذلك نحو سنة 440 هـ في دولة بني مرداس ». وذكر ابن كثير الشامي في تاريخه في حوادث سنة ( 507 ) أنه « لمّا فرغ بال صلاح الدين الأيوبي من مهمّات ولاية مصر توجّه نحو بلاد الشام، ثم جاء إلى حلب ونزل في ظاهرها، فاضطرب والي حلب وطلب أهلها إلى ميدان باب العراق وأظهر لهم المحبة واللين وبكى كثيراً ورغّبهم في قتال صلاح الدين وتعهد لهم بكل ما يلزم، وشرط الروافض عليه شروطاً وهي إعادة الآذان بحيّ على خير العمل، وأن يقولوها في مساجدهم وأسواقهم، وأن يكون لهم جامع الجانب الشرقي الذي هو الجامع الأعظم، وأن ينادوا بأسماء الأئمّة الاثني عشر أمام الجنائز، ويكبّروا على الجنازة خمس تكبيرات، وأن يكون أمر عقودهم وأنكحتهم مفوَّضاً إلى الشريفين أبي الطاهر وأبي المكارم حمزة بن زُهرة الحسيني اللَّذينِ هما مقتدى شيعة حلب، فقبل الوالي جميع ذلك وأذّنوا في تمام البلد بحيّ على خير العمل ».
وجاء في كتاب أعيان الشيعة قال: المعاصر في كتاب نهر الذهب: لم يَزَل الشيعة بعد عهد سيف الدولة في تصلّبهم، وأبطل أعمالَهم نور الدين (543م ). ومن ذلك الوقت ضعف أمرهم، غير أنهم ما برحوا يجاهرون بمعتقداتهم إلى حدود ( سنة 600هـ ) فأخفوها. ثم ذكر أن مصطفى بن يحيى بن قاسم الحلبي الشهير بطه زاده فتك بهم في حدود الألف، فأخفَوا أمرهم. وذكر بعض ما كان يفعله الحلبيون مع الشيعة من الأعمال إلى أن يقول في الأعيان: وقد كان في الحجة والبرهان لو كان، ما يُغني عن الأذى والإضرار والأعمال الوحشية ثم يقول:
وبالجملة سبب انقراض الشيعة من حلب هو ظلم الملوك وجورهم وتعصب العامة، وابتداؤه أوائل القرن السادس وشدّته في القرن السابع وتناهيه في أوائل القرن العاشر. وقد بقيت فيها حتّى اليوم جماعات قليلة من الشيعة. وفي كتاب نهر الذهب: « إنه لم يَزَل يوجد في حلب عدّة بيوت معلومة يقذفهم بعض الناس بالرفض والتشيع ويتحامون الزواج معهم، مع أن ظاهرم على كمال الاستقامة وموافقة أهل السنة »!.
وينسب إلى حلب من رواة الشيعة الأقدمين آل أبي شُعبة في أواسط المائة الثانية، وهم عبيدالله بن علي بن أبي شُعبة الحلبي، وإخوته محمد وعمران وعبدالأعلى، وأبوه علي ابن أبي شعبة. وهم بيتٌ مذكور في الشيعة، وكان عبيدالله كبيرهم ووجههم صنّف كتاباً فيما رواه عن أئمّة أهل البيت مشهور وهو أول ما صنفه الشيعة. وكانوا من أهل الكوفة يتّجرون إلى حلب فنُسبوا إليها.
وخرج من حلب عدّة من علماء الشيعة وفقهائهم، منهم الشيخ كردي بن عكبري بن كردي الفارسي الفقيه الثقة الصالح، كان يقول بوجوب الاجتهاد عيناً وعدم جواز التقليد، قرأ على الشيخ الطوسي وبينهما مكاتبات وسؤالات وجوابات.
وكان في حلب سادات آل زُهرة كانوا نقباء، وخرج منهم جملة من العلماء، منهم السيد أبو المكارم حمزة صاحب الغُنية، وقبره بسفح جبل الجَوشَن إلى اليوم. وذريّة بني زُهرة الآن يوجدون في قرية الفُوعَة من قرى حلب، وعندهم كتاب نسب قديم عليه خطوط نقباء حلب وعلمائها. وكانت لهم أوقاف جليلة في حلب مغتصبة، ويوجد في جهات حلب عدة قرى أهلها شيعة من قديم الزمان إلى اليوم، وهي: الفُوعَة، نُبَّل، النَّغاولة التي تُعرَف اليوم باسم الزهراء، كَفَرْيا وبعض مَعرّة مصرين (1). وفي هذه الأخيرة مشهد ينسب للإمام علي عليه السّلام. أما في حلب نفسها فالشيعة ظاهرون فيها ولكن بقلّة، وفيهم من العلماء العاملين اليوم الشيخ إبراهيم نصر الله.
الحلب ( 3 )
التشيّع في حَلَب عَبر القرون
انتشر الإسلام في عصر النبيّ صلّى الله عليه وآله في الجزيرة العربية، كما انتشر بعد رحيله في شتّى الأقطار.
ووالاه التشيّع في الانتشار بسرعة في الأقطار الإسلاميّة، وما ذلك إلاّ لأنّ أكثر المهاجرين والأنصار كانوا يشايعون عليّاً عليه السّلام ويحاربون معه لا سيّما في أيّام خلافته. وبعد ما نزل الإمام بالكوفة انتشر التشيّع في العراق.
ولمّا غادر الإمام الصادق عليه السّلام المدينةَ المنورة ونزل بالكوفة أيّام أبي العباس السفاح حيث مكث فيها مدّة سنتين، عمد الإمام إلى نشر علومه، وتخرّج على يديه الكثير من العلماء، وقوي التشيّع لأهل البيت عليهم السّلام. وهذا الحسن الوشّاء يحكي لنا عن إزهار مدرسة الإمام في العراق في تلك الظروف ويقول: أدركتُ في هذا المسجد ـ يعني مسجدَ الكوفة ـ تسعمائة شيخ كلّ يقول: حدّثني جعفرُ بن محمد (2).
وقد كان لهذه المدرسة العظيمة للإمام أكبر الأثر في انتشار التشيّع في أقطار العالم، وإن كانت جذوره موجودة قبل الإمام الصادق عليه السّلام في الشام ومصر وغيرهما. وقد انتشر التشيّع بواسطة مدرسة الإمام في معظم الأمصار الإسلامية خصوصاً في ثالث القرون وما بعده.
ومع أنّ الشام كانت مَعقِلَ الأُمويين ودارَ خلافتهم نرى أن التشيّع قد دبّ فيها دبيبَ الماء في الورد، فما من بلدة أو قرية إلاّ وفيها نجمٌ لامع من علماء الشيعة يقتفي أثرَ أهل البيت وينادي بموالاتهم التي نصّ القرآن الكريم عليها.
وقد كان لسماع كلمات أهل البيت عليهم السّلام جاذبيّة خاصة في قلوب المسلمين حيث يحنُّون إليهم حنين العاشق للمعشوق، لا سيّما أنّهم كانوا يصلّون على أهل بيت محمّد وآله وعترته في صلاتهم كلّ يوم وليلة تسعَ مرّات. وهذا الأمر يدفعهم إلى التعرف عليهم والاهتمام بشأنهم.
ولهذا وذاك، قويَ انتشار التشيّع والموالاة لأئمّة أهل البيت في أكثر الأقطار الإسلامية حتّى في معاقل الأعداء ودار حكومتهم.
حَلَب الشَّهباء وجمالها الطبيعي
من المناطق التي اعتنقت التشيعَ منذ عصور قديمة هي الشام، وخاصة حلب الشهباء التي نبغ فيها كثير من بيوتات الشيعة، وتربّى في أحضانها جيل كبير من المحدّثين والفقهاء والمتكلّمين والأُدباء من الشيعة.
يقول ياقوت الحموي في وصف حلب: « حَلَب » بالتحريك: مدينة عظيمة واسعة كثيرة الخيرات طيّبة الهواء صحيحة الأديم والماء (3).
وقد وصف الشعراء والأُدباء أزهارها وأثمارها، وأشاروا إلى ضواحيها ونواحيها وما فيها من جمال الطبيعة وكمال الصنع، وكأنّك ترى ماءها الفضيّ يجري على تراب كالذهب. وترى فيها أنواعاً من الأزهار والفواكه كلّها تُسقى بماء واحد.. وكأنّ الشاعر بشعره يقصد تلك البلدة إذ يقول:
صُبغت بلون ثمارِها أوراقُها فتكاد تحسـبُ أنهنّ ثمـارُ!
وللشاعر أبي بكر الصَّنوبريّ قصيدة تبلغ مائة وأربعة أبيات يصف فيها منتزهات حلب وقُراها مستهلّها:
إحبِسا العيسَ احبِساها وسَلا الـدارَ سلاهـا
ومن جملتها:
أنـا أحمـي حلبـاً دا را، وأحمي مَن حَماها
أيّ حُسـنٍ ما حَـوَتْهُ حلبٌ أو مـا حواها ؟!
إلى أن يقول:
حلـبٌ أكـرمُ مـأوىً وكـريـمٌ مَـن أواهـا
بَسَط الـغـيثُ عليـها بَسْطَ نورٍ، مـاطواهـا
وكـسـاهـا حُلـلاً، أبــدَعَ فـيـهـا إذ كسـاهـا
حُلَلـاً لُحْمـتـها السَّو سَنُ والـوَردُ سَداها (4)
قال السيد الخوانساري نقلاً عن كتاب ( تلخيص الآثار ):
إنّ حلب مدينة عظيمة بأرض الشام كثيرة الخيرات، طيّبة الهواء، صحيحة التربة، لها سور حصين. وكان الخليل عليه السّلام يحلب غنمه، ويتصدّق بلبنها يوم الجمعة. ولقد خصّ الله هذه المدينة ببركة عظيمة من حيث يُزرع بأرضها القطن، والسمسم، والدُّخن، والكَرْم، والمشمش، والتين، يسقى بماء المطر. وهي مسوَّرة بحجرٍ أسود، والقلعة بجانب السور؛ لأنّ المدينة في وطأ من الأرض، والقلعة على جبلٍ مدوّر، لها خندق عظيم، وصلَ حفره إلى الماء. وفيها مقامان للخليل عليه السّلام يُزاران إلى الآن، وفي بعض ضياعها بئر إذا شرب منها مَن عضَّه الكلب الكلِيب برئ.
ومن عجائبها سُوقُ الزّجاج، لكثرة ما فيه من الظرائف اللطيفة، والآلات العجيبة (5).
التشيّع في حلب عبر القرون
دخل التشيّع في حلب قبل عهد الحمدانيين ( 293 ـ 392 هـ ) ولكنّه انتشر وقوي فيها على عهدهم وذلك لأنّ الدولة الحمدانيّة كانت من الدول الشيعية، يجاهرون بالتشيّع وينصرونه، وكانوا يكرمون الأُدباء والشعراء والعلماء والمحدثين، لا سيما الذين يجاهرون منهم بالتشيّع وولاء أهل البيت. ومن أبرز شعراء الحمدانيّين أبو فراس الحمداني ( 320 ـ 357 هـ ) وله القصيدة الميميّة الطائرة الصيت التي مستهلّها:
الـحقُّ مَهتَضَـمٌ والـدِّين مُختَـرمُ وفَـيءُ آلِ رسـولِ اللهِ مُقـتَسَـمُ
إلى أن قال:
قـامَ النبيُّ بها يـومَ الغـديرِ لـهم واللهُ يَشـهـدُ والأمـلاكُ والأُمَـمُ
حتّى إذا أصبحت في غيرِ صاحبِها باتت تَنازَعُـها الـذُّؤبان والـرُّخَمُ
وصَيّروا أمـرَهُم شـورى كانَّـهُمُ لا يعـلمـون وُلاةَ الحـقّ أيّـهُـمُ
تاللهِ ما جَهِـلَ الأقـوامُ مَوضعَـها لكنّهم سَتروا وجـهَ الـذي عَلِمـوا
ثمّ ادّعـاها بنـو العبـاسِ مُلكَـهُمُ ولا لَهـمُ قَـدَمٌ فـيـهـا ولا قِـدَمُ
ولأجل تلك المناصرة، ووجود المناخ المساعد، أصبح التشيّع مذهباً رائجاً في تلك البلدة الخصبة ممتداً إلى ضواحيها كالموصل، وتشهد بذلك نصوصُ كثيرٍ من المؤرخين:
1. يقول ياقوت الحموي وهو يذكر حلب: والفقهاء يُفتون على مذهب الإمامية (6).
2. وقال ابن كثير الشامي في تاريخه: كان مذهب الرفض فيها في أيّام سلطنة الأمير سيف الدولة بن حمدان رائجاً رواجاً تاماً.
3. وقال مؤلف نهر الذهب: لم يَزَل الشيعة بعد عهد سيف الدولة في تصلّبهم حتّى حل عصبتَهم وأبطل أعمالهم نورُ الدين ( 543 هـ )، ومن ذلك الوقت ضعف أمرهم؛ غير أنّهم ما برحوا يجاهرون بمعتقداتهم إلى حدود ( 600 هـ ) فأخفَوها.
ثمّ ذكر أنّ مصطفى بن يحيى بن حاتم الحلبي الشهير بـ « طه زاده » فَتك بهم في حدود الألف فأخفَوا أمرهم، وذكر بعضَ ما يفعله الحلبيّون مع الشيعة من الأعمال الوحشية والمخازي والقبائح التي سوّدت وجه الإنسانية ويخجل القلم من نقلها.
وقال القاضي المرعشي: « أهل حلب كانوا في الأصل شيعة، وإلى أواخر زمان الخلفاء العباسية كانوا على مذهب الإمامية، وقد أُجبروا في زمان انتقال تلك الولاية إلى حكم السلاطين العثمانية على ترك مذهبهم ». وما مرّ من فعل ( طه زاده ) يؤيد ذلك، فإن استيلاء العثمانيين على حلب كان في أوائل المائة العاشرة.
وقال مؤلّف نهر الذهب: إنّه لم يَزَل يُوجد في حلَب عدّة بيوت معلومة يقذفهم بعض الناس بالرفض والتشيّع ويتهابون الزواج، معهم مع أنّ ظاهرهم على كمال الاستقامة وموافقة أهل السنة (7).
4. وقال ابن كثير:
لمّا سار صلاح الدين إلى حلب فنزل على جبل جوشن، نُودي في أهل حلب بالحضور في ميدان باب العراق فاجتمعوا، فأشرف عليهم ابن الملك نورُ الدين فتودّد إليهم وتباكى لديهم وحرّضهم على قتال صلاح الدين وذلك عن إشارة الأُمراء المقدّمين، فأجابه أهل البلد بوجوب طاعته على كلّ أحد، وشرط عليه الروافض منهم أن يُعاد الأذانُ بـ « حَيّ على خير العمل »، وأن يذكر في الأسواق، وأن يكون لهم في الجامع الجانب الشرقي، وأن يذكر أسماء الأئمّة الاثني عشر بين يدي الجنائز، وأن يكبّروا على الجنازة خمساً، وأن تكون عقود أنكحتهم إلى الشريف أبي طاهر أبي المكارم حمزة بن زاهر (8) الحسيني، فأجيبوا إلى ذلك كلّه، فأُذِّن بالجامع وسائر البلد بحيّ على خير العمل (9).
ونقل السيد الأمين عن أعلام النبلاء عن كتاب الروضتين، عن ابن أبي طي أنّه قال: فأذّن المؤذنون في منارة الجامع وغيره بحيّ على خير العمل، وصلّى أبي في الشرقي مُسبِلاً، وصلّى وجوه الحلبيين خلفه. وذكروا في الأسواق وقُدام الجنائز أسماء الأئمّة، وصلّوا على الأموات خمس تكبيرات، وأُذن للشريف ـ ابن زهرة ـ أن يكون عقود الحلبيين من الإمامية إليه، وفعلوا جميع ما وقعت الأيمان عليه (10).
5. وقال ابن كثير أيضاً:
إنّ بدر الدولة أبا الربيع سليمان بن عبدالجبار بن أرتق صاحب حلب لما أراد بناء أوّل مدرسة للشافعية بحلب لم يمكِّنه الحلبيون، إذ كان الغالب عليهم التشيع.
إنّ ابتداء إمرة سليمان هذا في حلب نيابة عن عمّه « ايلغاري » بن ارتق، كان سنة 515 هـ وانتهاؤها سنة 517 هـ، وإنّ تلك المدرسة تسمى « الزجاجية » وانّه كلما بنى فيها بناءً نهاراً خرّبه الحلبيون ليلاً إلى أن أعياه ذلك، فأحضر الشريف زهرة بن علي بن إبراهيم الإسحاقي الحسيني والتمس منه أن يباشر بناءها، فكفّ العامة عن هدم ما يبنى، فباشر الشريف البناء ملازماً له حتّى فرغ منها (11).
وخرج من حلب عدّة من علماء الشيعة وفقهائهم منهم الشيخ كردي بن عكبري بن كردي الفارسي الفقيه الثقة الصالح، كان يقول بوجوب الاجتهاد عيناً وعدم جواز التقليد. قرأ على الشيخ الطوسي، وبينهما مكاتبات وسؤالات وجوابات (12).
ومنهم الفقيه المقدام أبو الصلاح تقي بن نجم الحلبي ( 347 ـ 447 هـ ) مؤلف « الكافي »، و « التهذيب » و « المرشد » و « تقريب المعارف » ـ وقد طبع الأول والأخير ـ وغيرها.
وقد كانت الصلة بين شيعة حلب وشيعة الكوفة وثيقة جدّاً، ولهذا نرى أنّ بعض البيوت العراقية ينتسب إلى حلب، وما ذلك إلاّ لوجود الصلة التجارية أو العلمية بين البلدين، فهذا هو عبيد الله بن علي بن أبي شعبة المعروف بالحلبي كان يتّجر هو وأبوه وإخوته إلى حلب فاشتهروا بالحلبيّين. وعبيدالله هذا من فقهاء الشيعة في القرن الثاني وله كتاب يرويه أصحابنا عنه (13)، ورواياته مبثوثة في المعاجم الحديثية.
هذا بعض ما كان للشيعة من الشأن في تلك التربة الزاهرة. وأمّا مصيرهم في القرون فقد حدّث عند المؤرخون، وقد مرّ تصريح بعضهم بما جرى على شيعة آل البيت من المجازر فيها. فلْنُشِيرْ هنا إلى النزر اليسير منها.
إنّ تاريخ الشيعة تاريخ حافل بالتضحيات حيث إنّهم عاشوا بين الخوف والرجاء، وبين الحَجَر والمَدَر، وقد تعامل معهم الأُمويّون والعباسيّون بشكل يَندى له جبين البشرية، ولم يكن السبب وراء ذلك إلاّ عدم تحالفهم مع الظالمين، ومع ذلك فبقاء الشيعة اليوم يعدّ من أكبر المعاجز ومن خوارق العادات، إذ لم يشهد التاريخ أُمةً أصابتها النوائب والمظالم والقتل الذريع مثل ما أصابت شيعة أهل البيت ومواليهم، ولو أنّك وقفت على ما في طيّات كتب التاريخ لَضُقتَ ذَرعاً ولَمُلئت ممّا جاء فيها رُعباً.
6. قال كرد علي في خطط الشام:
كان أهل حلب سُنّة حنفية، حتّى قدم الشريف أبو إبراهيم الممدوح ـ في عهد سيف الدولة ـ فصار فيها شيعةٌ وشافعية. وأتى صلاح الدين وخلفاؤه فيها على التشيّع، كما أتى عليه في مصر. وكان المؤذن في جوامع حلب الشهباء يؤذّن بحيّ على خير العمل. وحاول السلجوقيون مرات، القضاء على التشيّع، فلم يقدروا على إلى ذلك. وكان حكم بني حمدان، وهم شيعة، من جملة الأسباب الداعية إلى تأصل التشيّع في الشمال، ولا يزال على حائط صحن المدفن الذي في سفح جبل « جَوشَن » بظاهر حلب ذكر الأئمّة الاثني عشر، وقد خُرّب الآن (14).
7. وقال ابن جبير: للشيعة في هذه البلاد أُمور عجيبة، وهم أكثر من السنيين بها، وقد عمّوا البلاد بمذاهبهم (15).
دخل صلاح الدين الأيوبي إلى حلب عام 579 هـ وحمل الناس على التسنن وعقيدة الأشعري، وكان لا يُقدَّم للخطابة ولا للتدريس إلاّ من كان مقلِّداً لأحد المذاهب الأربعة، ووضع السيف على الشيعة فقتلهم وأبادهم مثل عمله في مصر، إلى حد أن يقول الخفاجي في كتابه: « فقد غالى الأيوبيّون في القضاء على كلّ أثر للشيعة » (16).
وبما أنّه سبحانه شاء أن يبقى التشيّع في حلب، نرى أنّ الدولة الأيوبيّة لم تتمكن من القضاء على التشيّع فيها تماماً بل بقيَ رغم ما أصابه من الكوارث والمحن.
8. وهذا ياقوت الحموي يكتب عن حلب عام 636 هـ ـ أي بعد دخول الأيوبي لها بسبع وخمسين سنة ـ ما لفظه: وعند باب الجنان مشهد عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، رُؤي فيه في النوم، وداخل باب العراق مسجدُ غوث، فيه حَجَر عليه كتابة زعموا أنّها خطّ علي بن أبي طالب عليه السّلام، وفي غربيّ البلد في سفح جبل جوشن قبر المحسِن بن الحسين يزعمون أنّه سِقط لمّا جيء بالسبيّ من العراق ليُحْمَل إلى دمشق، أو طفل كان معهم بحلب فدفن هنالك. وبالقرب منه مشهد مليح العمارة تعصّب الحلبيون وبنوه أحكمَ بناءٍ، وأنفقوا عليه أموالاً، يزعمون أنّهم رأوا علياً عليه السّلام في المنام في ذلك المكان (17).
هكذا استمر التشيّع في حلب رفيع البناء، لم تقلعه تلك الهزَّاتُ العنيفة، ولم تقوّضه تلك العواصف الشديدة، إلى أن أفتى الشيخ نوح الحنفي (18) بكفر الشيعة واستباحة دمائهم وأموالهم، تابوا أو لم يتوبوا. فزحفوا على شيعة « حلب » وأبادوا منهم أربعين ألفاً أو يزيدون، وانتُهبتْ أموالهم، وأُخرج الباقون منهم من ديارهم إلى « نُبُّل » و « النغاولة » و« أُمّ العمد » و « الدلبوز » و « الفُوعَة » وغيرها من القرى، واختبأ التشيّع في أطراف حلب في هذه القرى والبلدان.
9. هاجم الأمير ملحم بن الأمير حيدر، بسبب هذه الفتوى، جبلَ عامل عام 1048هـ فانتهك الحرمات واستباح المحرّمات يوم وقعة قرية « أنصار »، فلا تسأل عمّا أراق من دماء، واستَلب من أموال، وانتهك من حريم، فقد قتل ألفاً وخمسمائة، وأسر ألفاً وأربعمائة، فلم يرجعوا حتّى هلك في الكنيف ببيروت.
فيالله من هذه الجرأة الكبرى على النفوس والأعراض، ومن تلك الفُتيا الّتي غرّرت بأُولئك على تلك الفظائع والجرائم (19).
10. ولم يكن ذلك الفتك الذريع أوّل تصفية جسدية للشيعة، بل صُبّت عليهم قوارع في دار الخلافة، قبل قرنين بالوحشية التامة يَنْدى لها جبين الإنسانية. فقد قتل السلطان سليم في الأناضول وحدها أربعين ألفاً، وقيل سبعين ألفاً؛ لا لشيء إلاّ أنّهم شيعة (20).
ما أقبحها من عصبية وما أقساها!!
تُرى أكان يسوغ في شريعة الإنصاف أن يُسام قوم يدينون بدين الحقّ، ويتّبعون أوصياء النبيّ الشرعيين الّذين أوصى النبيّ بموالاتهم ومحبتهم، ويُمنَعوا من أبسط حقوقهم الإنسانية وهي حرّية الرأي والمعتقد، خاصة إذا كان ذلك المعتقد من النوع الذي يأخذ بصاحبه إلى الفضيلة والطهر، والإنسانية والكمال ؟!
ترى أكان يسوغ أن تمنع جماعة يحترمون وصية النبيّ صلّى الله عليه وآله في ذريته وخلفائه الأبرار، من أداء شعائرهم النابعة من الكتاب والسنة إلاّ في غطاء التقية ؟ وإذا كنت التقية أمراً قبيحاً فعملُ مَن حَملَهُم عليها وأجبرَهم أقبح.
وهذا هو العالم الشاعر إبراهيم يحيى (21) يصف مظالم « الجزّار » والي عكّا وفظايعه على الشيعة في جبل عامل تلك المنطقة الخصبة بالعلم والفضل، وجمال الطبيعة. وكانت ولم تزل داراً للشيعة منذ عصور، تلمع كشقيقتها « حلب » في خريطة الشامات. وقد صوّر الشاعر ما جرى عليهم في قصيدته على وجه يُدمي الأفئدة والقلوب، وقد هاجر من موطنه إلى دمشق ونظم فيها القصيدة الميميّة نقتطف منها ما يلي:
يعـزّ عليـنا أن نـروحَ ومِصـرُنـا لِفـرعـونَ مَغْنى يَصطـفيهِ ومَغـنَـمُ
منـازلُ أهـلِ العـدِل منـهم خَلـيّـةٌ وفيـها لأهـلِ الجـورِ جيشٌ عَرمـَرمُ
وعاثَت يـدُ الأيـامِ فينـا، ومجـدُنـا وبـالـرغـم منـي أن أقـول مُهـدَّمُ
ولسـتَ تـرى إلاّ قـتيـلاً وهـاربـاً سلـيبـاً ومكبـوبـاً يُغَـلّ ويُـرغَـمُ
وكـم عَلَمٍ فـي عامـلٍ طَـوَّحَت بـهِ طـوائـحُ خَطبٍ جُـرحُها ليس يُـلأمُ
وأصـبح فـي قيـدِ الـهـوانِ مكـبَّلاً وأعـظـمُ شـيء عـالِـمٌ لا يُعـظَّـم
وكم مِـن عزيزٍ نالَـهُ الضـيمُ فاغتدى وفـي جِيـدِه حبلٌ مـن الـذُّلِّ مُحـكَمُ
وكـم هـائمٍ فـي الأرض تَهـفو بلُـبِّهِ قـوادُم أفـكـارٍ تـَغـورُ وتُـتـهِـمُ
ولـمّـا رأيتُ الـظـلم طالَ ظَـلامـهُ وأنّ صـبـاحَ الـعـدلِ لا يَتـبـسّـمُ
تَرحّـلتُ عـن دار الـهـوانِ، وقلّـما يَطيُب الثـوى في الـدار والـجارُ أرقمُ
تَمـلّـكـها ـ والمُـلكُ للهِ ـ فـاجـرٌ سـواءٌ لـديـهِ مـا يَحـلُّ ويَـحـرُمُ
عُتلٌّ زَنـيم، يُظـهِرُ الـديـنَ كـاذبـاً وهيهاتَ أن يخفى على الله مُجرمُ! (22)
من كتاب « تذكرة الأعيان » لجعفر السبحاني
الناشر: موسسة الإمام الصادق عليه السّلام، قمّ، الطبعة الأولى 1419 هـ
وهنا تجدون بعض الصور الموضحه