New Page 1

العودة   .. :: منتدى تاروت الثقافي :: .. > المنتديات الثقافة الفكرية والعلمية > المنتدى الثقافي والأدبي

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 19-07-02, 11:35 AM   #1

دانيال
...(عضو شرف)...

 
الصورة الرمزية دانيال  







رايق

رواية دموع مسلحة (( الشيخ منصور السيف و نجيبة السيد علي ))


تعريف الرواية:

رواية تدور أحداثها في مدرسة ثانوية بمدينة القطيف، مشاكل البنات، دواخلهن الكثيرة، قلوبهن المفعمة بآمال وهموم، إحداهن تفكر في الانتحار والأخرى في الهروب، تجد زهراء نفسها في خضم هائج يكاد يرميها في هاوية سحيقة دون أن تدري ، تزدرد الشائعات معان كثيرة، لكن من يصارع الشائعة.. من يقاوم الوهم .. من يتخذ الحقيقة شمساً مغالباً كل الضبابيات.. ربما كانت الدموع كالشلال القادر على مقارعة الضباب فكانت دموع لكنها ليست دموع العجز والضعف المقنن بالتبريرات رواية تعالج واقع الفتيات في ظل متغيرات العصر الجيد بسلبياته وايجابياته.

الجزء الأول:

كانت بشرتها شاحبة كبشرة الموتى، خطواتها تقع على أرض الرصيف المسفلتة مرتجفة مترددة، بين الفينة والأخرى، تدير وجهها للوراء ثم تلتفت بنظراتها يميناً وشمالاً، بدت قلقة العينين، كثيرة اللّفتات لو رآها أحد لارتاب في أمرها وظنّ فيها الظنون، تصوّرت أن الناس جميعهم يحتوشونها بنظراتهم الفضولية ، رغم أن الطريق كان خالياً من المارّة والسيارات ، بل صامتاً تتخلل صمته أصداء لسيارات يزدحم بها الشارع العام الذي يقع إلى ظهر المدرسة.

بدأت رجلاها تأخذانها بعيداً عن المدرسة، ربما تكون قد سلكت هذا الطريق مئات المرات في ذهابها وإيابها من وإلى المدرسة لكنها في هذه المرة تسلكه بطريقة مختلفة تماماً، بالنسبة لها على الأقل، إنها لم تعتد مثل هذه المخالفات، سيرتها في المدرسة تعد ضمن الطالبات المثاليات في حسن السيرة والسلوك، إنها الآن كالهاربة، بل هي هاربة بالفعل، فقد خرجت قبل انتهاء الدوام المدرسي بثلاث حصص.

- ياإلهي..!

قالتها في تأوّه بعد أن توقفت فجأة، ربما كانت تحاول مراجعة نفسها، لكن عقلها كان مشحوناً، غير قادر على تنظيم تفكيره، تابعت خطواتها بين سطوات الحيرة، تسوقها أخيلة مفزعة.

لقد اتخذت قرارها هذا لتقطع به زوبعة الشك، لكن للحيرة زوبعة أشد فظاعة، أو يحق لها أن تهرب من المدرسة لتراقبه؟! إنه أبوها! الرجل الأول في حياتها، تعيش تحت سطوته الأبوية القاهرة، تستسلم لخطوطه المستقيمة بلا انحناء، تنعم بصفاء حبه الذي ازداد قوة وإغراقاً بعد أن صارت هي وحيدة من أمها، التي هجرت البيت منذ ما يقارب الستة الأشهر.

لم هجرت أمها البيت؟ لا تدريّ.. هل هجرته أو هجّرت عنه؟ أيضاً لا تدري! لكن أذنيها دائماً تلتقطان شظايا جدال عقيم بين أبيها وأمها ينتهي إلى فرقعة مروّعة.. واستمرت لاتدري. أما الآن فإنها تكاد تحلل في ذهنها الكثير من الأمور.

"أميمة" زميلتها في المدرسة، تسكن الفيلة المجاورة لفيلتها، أخبرتا أن علاقة غير شرعية تأخذ مجراها في غياب والدتها عن البيت، الشغالة الفليبينية التي جلبها والدها يوماً ما لمساعدة أمها في تدبير شؤون المنزل، تحولت إلى عشيقة، وأكدت أن هناك من رآه يلازم البيت صباحاً للخلوة بها.

حينها هوت على مقعد المدرسة الخشبي الخشن كطير فقد القدرة على التحليق فجأة، فسقط مرتطماً بأرض صلبة، تمتمت:

- لا..! لا يمكن..! أبي لا يفعل ذلك..

لكن الشك سرعان ما استأسد في رأسها وقررت في نفس اللحظة أن تقطع زوبعة الشك، ولو كلّفها ذلك الهرب من بقية اليوم الدراسي.

تسارعت خطواتها، ثم ما لبثت أن جمدت ! ماذا لو دخلت البيت واكتشفت زيف ما نقلته أميمة! وكيف سيكون موقفها مع ضميرها بعد أن سمحت للشك أن يقتحم العلاقة الوطيدة بينها وبين أبيها؟! هل ستتمكن من النظر في عينيه مرة أخرى وهي تحمل بين حدقتيها سهام الشك المرتدة!

انطلق لسانها في عفوية كأنها تخاطب الدنيا كلها!

- لابد من كشف الأمر، لن أعيش مخدوعة، لن أحتمل مثاليات بلا روح.

لامس بلل الدموع غطاء الحرير الأسود الذي أسدل على وجهها ، أحسّت باختناق مشاعرها، ودّت لو ترفع عنها الغطاء، وتأخذ نفساً بارداً يطفئ نيران الدموع.

انسابت خطواتها، زاد دفق دموعها.. بدت الفيلة الشامخة باهتة في عينيها..

تسلل إلى قلبها بصيص من الاطمئنان، فسيارة أبيها ليست موجودة، وقد اعتاد إيقافها خارجاً في مشاويره السريعة، لكن لعله يدخلها في المر آب في الزيارات الصباحية المختلسة، بارحتها الطمأنينة ثانية، أخرجت مفتاحها، فتحت باب الفيلة الحديدي المغطى بزجاج عاكس، أحدثت متعمدة صوتاً وهي تفتح الباب، قالت في نفسها:

- إذا كانت الخادمة" ليزا" تنتظر موعداً غرامياً فلابد أنها ستخرج للاستقبال، لكن الخادمة لم تخرج، تقدّمت"أمل" خطوات، أطلّت على المرآب من باب يصله بفناء البيت، كان خالياً، خفّت خطواتها وهي تشق العتبات الخمس نحو مدخل الفيلة الداخلي، همّت أن تدفع باب الألمنيوم الداكن لولا أن فوجئت بشيءٍ ما!

انفتحت عيناها عن آخرهما لتدققا في شيء يخص والدها، سرت في جسدها رعشة، إنه حذاؤه.. إذاً فهو هنا في زيارة مختلسة حاول محو آثارها الخارجية، السيارة(لا وجود لها) لكنه هنا، لقد رأته ينتعل هذا الحذاء صباح اليوم، ليس من عادتها الخلط في أحذيته رغم تشابهها..

أججّت دموعها حمم الهواجس، كادت شهقاتها تفلت منها تمتمت في حنق:

- أعوذ بالله، إذاً صحيح ما يقال عنك يا أبي، تترك أمي من أجل الخادمة!

وهمّت بالدخول بغتةً ، لكنها ترددت، قالت:

- لا .. إلى هنا يكفي فقد أجد ما لا ينبغي رؤيته.

استندت إلى الباب تلهث أنفاسها، كانت متوترة قلقة، انفجرت شهقاتها المحبوسة وهي ترفع حقيبتها لترمي بها أرضاً وكأنها سر شقائها، تذكرت مثاليات والدها وإصراره على تفوّقها، نظرت إلى الحقيبة في تبّرم وضيق!..

غاصت الحقيبة في استسلام بين أحضان شجر " المشموم" الذي تكاثر حول ضفة الساقية، لم تعد تدري ماذا تفعل، لكنها بالتأكيد لم تعد قادرة على دخول بيت أضحى بلا حصن، أسواره هدمت، أبوابه اقتلعت، وتداعت أركانه، إذاً عليها مغادرة البيت بأقصى سرعة ممكنة، لكن إلى أين؟لا تدري، فقط عليها أن تغادر.

سحبت رجليها المثقلتين خارجاً، أدرات وجهها لحظة للبيت الذي ضمّ آمالها وآمالها، أحسّت بدوار شديد عاندته بخطوات محمومة تتسارع على غير هدى.

مازال الطريق هادئاً صامتاً، لكن عقل " أمل" السلوم" قد ازدحم فلم يعرف الهدوء.



الجزء الثاني

مدرسة المنار الثانوية للبنات، عملاقة في مبناها الذي مازال يحتفظ بقوة هيكله رغم سنواته الطويلة، داكنة في ألوانها المتراوحة بين البني الغامق والفاتح، متّسعة في أفنيتها، رمتها شمس الخريف بأشعة عمودية لم تفقد الكثير من قسوتها، بدأ المبنى العملاق يفك عن حمولته من طالبات ومدّرسات، لفظ الطريق صمته وهدوءه حينما أخذت أبواق السيارات وباصات نقل الطالبات تصدح في غير تأنٍ.

مكتب الإدارة في الدور الأرضي فخم أنيق، تزدان جدرانه بلائحات ( الفلين) التي نطقت عن أيد فنية ماهرة.

على كرسي مخملي دوّار جلست أبله" حصة المفتاح" مديرة المدرسة في مقابلها تجلس ثلاث إداريات، تأخرن جميعهن في جلسة إدارية روتينية قصيرة، إعتدنها في يوم الاثنين من كل أسبوع، لكن أبله " زهراء البدري" مشرفة المدرسة الشابة الأنيقة، لم تكن تعترف بالروتين أبداً قالت وهي تصحح دفتر الحضور والغياب:

ـ نسب الغياب دائماً في تزايد، ثلاث طالبات من كل فصل بشكل يومي، ثلاث طالبات من مجموع ثلاثين طالبة، هذا يعني أن نسبة الغياب 1.% وهي نسبة عالية جداً.

أكملت وهي ما تزال تتصفح دفتر الغياب والحضور:

ـ هناك عدة طالبات تكرر غيابهن 4 مرات خلال شهر، يعني أن مستوى غياب الطالبة13:3% هذا عدا عن غيابهن الذهني أثناء الحصة أو تهرّبهن من بعض الحصص.. كل هذا يؤثر في مستوى التحصيلّ!

نطقت أبله "نوره البشمي" مساعدة المديرة منذ سنوات طويلة ، قالت وهي تعيد تزرير قميصها الذي ضم جسداً مكتنزاً:

ـ ربما كان علينا أن نزداد حزماً في تطبيق قرارات الفصل وعقوبات الغياب المتكرر.

انتقلت دفة الحديث إلى المديرة التي قالت:

ـ في السنة الماضية كان هناك قرار فصل، الأول للطالبة " عالية سعود" التي تم فصلها بالفعل، والثاني للطالبة" شفيقة مصطفى" لكنها أرجعت بقرار من مندوبية القطيف.

ـ "شفيقة المصطفى" وجودها في المدرسة كعدمه، ما كان يصح إلغاء قرار فصلها حتى لو جاء خطاب من المندوبية فنحن أعلم بمدى تقصير الطالبة وإهمالها.

قالتها نوره البشمي في إصرار، عقبت زهراء وقد وضعت السجّل جانباً:

ـ حتى لو عارضنا قرار إرجاعها، نحن مازلنا نحوم في نفس دائرة الأسلوب المقرر الذي أثبت عدم نجاحه.

تكلمت " هند العليان" كاتبة المدرسة، قالت وهي تعدّل من وضع نظارتها الطبية الدقيقة، التي تربعت فوق عينين صغيرتين:

ـ هذه مقررات ولوائح نحن لا نملك تغييرها...,أحياناً لا نملك حتى حق تطبيقها، إذا تدخلت خطابات أولياء الأمور إلى الرئاسة أو المندوبية.

حدقت زهراء في وجهها طويلاً، قالت بعد تأمل:

ـ ربما، لكن هذا لا يعني أن نفقد الحيلة.

تكلمت حصة المفتاح ، وهي تحرّك قلمها في يدها اليمنى:

ـ أقترح أن نجري دراسة اجتماعية ميدانية لأسباب الغياب، وعلى أساسها ربما أمكننا الوصول إلى أساليب جديدة ، من شأنها تقليل نسب الغياب.

ابتسمت " هند العليان" فطن الجميع إلى مغزى بسمتها، قالت:

ـ عمل صحافي ممتاز!

قطعت عليها زهراء قائلة وهي تحتضن بين رفيف شفتيها بسمة أخرى:

ـ ولأنه عمل صحفي ممتاز فأنت من سيقوم به .. ألم تكن أمنيتك في يوم ما أن تكوني صحفية!

قالتها ولم تنتظر جواباً، أكملت في جدّية:

ـ التحقيق في أسباب الغياب من أصعب الأمور!

ـ بل أعقدها، فالسبب الحقيقي للغياب غالباً ، لا يقال.

عقبت زهراء على كلام هند قائلة:

ـ خصوصاً إذا جاء الرّد من الشغالة.. فهي التي ترد على الاتصالات الصباحية المزعجة.

تأففت "نورة البشمي" وهي تقول:

ـ هذا يعني أن نعمل خارج الدوام الرسمي من أجل البحث عن أمر واضح!

بدا صوتها محتداً عنيداً وهي تكمل:

ـ أسباب الغياب واحدة.. الإهمال.. الهروب من المسؤولية، جيل فاشل لم يعد يقدّر قيمة العلم.

ـ إطلاق الأحكام بهذا الشكل ظلم لهذا الجيل، هناك أسباب أخرى ضاغطة كالحالة الاقتصادية، والمشاكل الأسرية، وهي ليست من صنع هذا الجيل.

بدا واضحاً اتهما تتبادلان الحديث من عقليتين مختلفتين في أشياء كثيرة.. لم ترضخ نورة لهزيمتها أمام تبريري زهراء، قالت وهي توسع دفة النقاش:

ـ ماذا عن غياب المدّرسات، وبالذات المستجدات منهن، أنهن يغبن لأتفه الأسباب! ويهدرن يوماً دراسياً بأكمله!

ـ " اليوم الدراسي المهدور" عنوان جذاب لمقال مفيد.. أرى أن نقاشكن اليوم شديد الإيحاء.

لكنها لم تكمل انطباعها حول النقاش إذ قطع عليهن رنين الهاتف، كانت زهراء البدري أقربهن إليه، مدّت إلى سماعة الهاتف يداً وبيدها الأخرى أخذت تسحب قرطاً أزرق تدلى من أرنبة أذنها اليمنى.

بدا واضحاً أنها تكلّم شخصاً على عجلة من أمره، ردّت:

ـ خرجت الطالبات منذ ساعة..

نظرت إلى معصمها.. قالت مؤكدة..:

ـ نعم، لقد مضى على خروجهن ساعة كاملة، يفترض أنها وصلت للبيت مادام ليس بعيداً.

كان القلق بادياً في عينيها وهي تستمع إلى محدّثها ، ردّت:

ـ على كل حال سوف نتأكد أنها ليست في المدرسة.

وضعت سماعة الهاتف، قالت وهي تهّب واقفة في حالة استنفار للجميع:

ـ علينا أن نبحث في أنحاء المدرسة! بل حتى خارجها ربما الفتاة تنتظر في الخارج!

بدا الضيق واضحاًُ على "نورة البشمي" وهي تنظر إلى ساعة يدها، نهضت متثاقلة، صارت تبحث في فصول الدور الأرضي، استمرت عملية البحث، انضمت عاملات النظافة إليهن، كانت زهراء تهرول في مشيها كأنها تريد أن تستبق الثواني، وعاملة النظافة "أم راشد" تتبعها في خفة معهودة بها لنحافتها وطول قامتها الذي ميّزها عن الجميع، وصلت زهراء إلى آخر فصل في الممر العلوي الطويل، أطلّت ثم أدارت وجهها وهي تقول:

ـ غير معقول، ليست في المدرسة ولم تصل البيت بعد.. أين ذهبت إذاً.. ماذا سنجيب والدها؟!

لكن أم راشد لم تعقّب، بل ندّت عيناها السوداوان عن شيء من الارتباك، حاولت مداراته بإنزال عينيها إلى الأرض، التقى الجميع مرة ثانية في مكتب الإدارة، بدت نورة متأهبة للمغادرة، لبست هند عباءتها الحريرية اللامعة، ولفت الغطاء حول رأسها، قالت المديرة بنبرة استحوذت عليها الحيرة والقلق:

ـ يفترض أن نطمئن عليها قبل خروجنا.

وجوم ثقيل، ألجأ زهراء إلى دفتر الغياب والحضور، قالت وهي تطالع باستغراب:

ـ لقد سجلت الطالبة" أمل السلوم" حضوراً في النصف الأول من الدوام فقط.

ـ هذا يعني أنها خرجت قبل انتهاء الدوام!

قالتها المساعدة وهي تجلس مكتوفة اليدين كمن استسلم لأمر ما، تساءلت المديرة في غضب:

ـ ومن أعطتها اذناً بالخروج!

ـ لم نصرف اليوم أذونات خروج البتة.

ردّت زهراء فازدادت المديرة غضباً:

ـ وكيف خرجت بدون إذن؟!

ارتفع رنين الهاتف، لم يكد يكمل رنته الأولى حتى كانت السماعة في متناول يد المديرة، قالت في قلق:

ـ ألم تعد بعد؟!

ازداد القلق في عينيها وهي تستمع إلى صوت محدّثها المشحون بالتوتر، قال:

ـ إذاً أين هي.. لمَ لم تعد للبيت.. هل حدث لها مكروه!

ردّت بصوت ليس أقل توتراً:

ـ لقد بحثنا عنها دون جدوى، حتى حمامات المدرسة فتحناها واحداً واحداً.. بل اكتشفنا أنها خرجت قبل انتهاء اليوم المدرسي!

ـ ماذا؟! غير معقول.. كيف تخرج من المدرسة دون علمكنًّ! لو حدث لها شيء فأنتن من سيتحمل المسؤولية!

ـ نحن سنتصرف بسرعة، لكن عليك أن تسأل عنها في بيت أقاربها أو صديقاتها!

ـ ابنتي لم تتعود الذهاب إلى بيت أحد!

ـ هل يضرّك السؤال عنها، نحن في انتظار مكالمة منك!

ـ آه صحيح.. سوف أتصرّف، لا تقلقي كثيراً ربما وجدتها لدى عمتها!

أطبقت " حصة المفتاح". .....سماعة الهاتف بيدِ مرتعشة، استدارت نحو عاملات النظافة الأربع، بدأت توجه أسئلة سريعة دون أن تصل إلى جواب، ضربت على مكتبها في حنق، أرعدت ضربتها كيان أم راشد المتماسك ظاهرياً، لوّن القلق وجهها حين قالت المديرة:

ـ لابد أن هناك من ساعدها للخروج بدون إذن.. فالبوابة مغلقة دائماً!

ـ ومن سيساعد طالبة على الخروج دون إذن، ولماذا؟ لا بدّ أن هناك سراً!

انطلق صوت "زاهي شرف" في محاولة لتبرئة ساحة عاملات النظافة، قالت معقّبة على اثارة هند العليان :

ـ ليس بيننا وبين الطالبات أي أسرار، وليس لنا مصلحة في إخراج طالبة بدون إذن.

واجهها الجميع في صمت، بان الرضا على وجه عاملات النظافة لدفاعها، قطعت نورة البشمي حبل التوتر الممتد قالت:

ـ علينا أن لا نضخم الأمور، ربما تكون في البيت، في إحدى الغرف نائمة وأبوها لا يدري عنها.. فهذا يحدث كثيراً!

ابتسمت هند العليان في مرح ليس في وقته قالت:

ـ نعم ، احتمالك وارد، وارد جداً.. قبل أيام قلبت جارتنا الدنيا بحثاً عن ابنتها، ثم اتضح أنها نائمة في الحمام من شدة الإرهاق.

قهقهت هند لتجر ضحكات مغتصبة من فم البعض بينما اكتفت أبله زهراء بمراقبة أم راشد التي بدت غريبة بعض الشيء، خصوصاً وأنها واثقة من عدم صرف أي إذن بالخروج لأي طالبة، الأمر صار في عهدتها منذ غياب مراقبة المدرسة في إجازة مرضية، وقد تقبلت عبء المسؤولية الإضافية عن طيب خاطر، لكنها لم تتوقع أن تخرج طالبة من المدرسة وبهذه الطريقة الغريبة.


الجزء الثالث

أحدثت طرقات على باب غرفة أخيها لم تنتظر جوابها ثم استدارت لتدخل غرفتها، الواقعة قبال غرفة أخيها في بيت متواضع بمنطقة الدخل المحدود، يضم أربع غرف نوم ومجلساً للضيوف، أخذت نفساً عميقاً وهي ترمي بسجلاتها على مكتبها الصغير بغرفة نومها البسيطة ذات السرير الأحادي،ارتمت عليه في محاولة للاسترخاء من تعب متواصل طوال اليوم الدراسي، استرخت أهدابها في ثقل كاد أن ينقلها وشيكاً إلى عالم النوم الذي يلوذ به كل منهك لولا أن فكرها كان ما يزال يمخر في عباب الحيرة والقلق، داهمتها والدتها التي دخلت فجأة قائلة:
ـ زهراء .. يا زهراء.. هل ستنامين يا عروسي دون غذاء!
ـ لم أكن أنوي النوم، لكني متعبة وجائعة، تصوّري أني لم أستطع تناول وجبة الإفطار!
ردت والدتها وهي تنزل الستار على نافذة اخترقتها أشعة الشمس:
ـ عادي جداً، بمجرد أن تنهمكي في العمل تنسين كل شيء .. ارفقي بصحتك ياابنتي.
ـ صحتي على مايرام.. ها .. ماذا أعددت لنا من طعامك الشهي!
ـ ألم تشمي الرائحة.. كبسة سمك "هامور"... هيا أسرعي قبل أن يبرد!
دلفت أمها خارجاً، وهي تعدّل من وضع "مشمرها" على رأسها، بينما استقرت زهراء في مكانها لم تبارحه، أطرقت تفكر في حدث اليوم واحتمالاته، جاءها صوت أمها مستعجلاً، وسرعان ما غيرت ملابس المدرسة بملابس بيتية فضفاضة، تركت شعرها ينساب على كتفيها في حرية، نظرت نفسها في المرآة، وهي تجفف وجهها بعد أن غسلته بالصابون،كانت آثار التعب بادية في عينيها، غادرت غرفتها لتتحلّق حول سفرة الطعام مع أبويها، قبل أن تضع لقمة في فمها، تساءلت:
ـ أين ناصر؟ لقد طرقت بابه فلم يجب..
ردت والدتها وهي تخلط سلطة الخضار بعصير الليمون:
ـ ولن يجيب إلآ أن يستيقظ وحده.
ازدرد " أبو ناصر" لقمته وألحقها بكأس من الماء البارد، قال:
ـ إيه... الله يرحم أيام زمان.. صار الليل نهار والنهار ليل!
علقت زهراء في تأفف واضح:
ـ لست أدري كيف يطيق النوم إلى هذا الوقت من النهار!
ردّت أم ناصر وهي تهرّ رأسها:
ـ هذا قدره، فهو منذ سنتين يبحث عن عمل بشهادة الكفاءة فلايجد.
ـ قدره أم اختياره يا أمي، كان بإمكانه مواصلة الدراسة، لكنه ركن إلى الراحة والخمول، ثم ما باله كلما حصل على وظيفة استقام فيها أياماً ثم عابها وتركها.
بلهجة بسيطة، وكلمات تنساب في تأنٍ وبطء، عقّب أبو ناصر:
ـ جارنا الحاج "جاسم"، ورشته على الشارع العام، عرض عليه أن يعلمه تصليح السيارات ، لكنه رفض.. ماالسبب.. ساكت وحين نطق قال عذراً أقبح من ذنب...!
ـ بالتأكيد قال إن المهنة فيها وسخ وروائح وهو لا يحتمل!
ـ أعيد وأزيد.. الله يرحم أيام زمان، الواحد منا كان يشتغل في الغوص، وتحميل رمال البحر، وكلمة أف تعاب على الرجل!
ـ أيامنا غير وأيامهم غير يا أبا ناصر، وكل واحد يعيش يومه، نسأل الله أن لا يطيل عليه الحال.. لقد فكرت فوجدت أن أحسن طريقة هي شراء سيارة"فان" لناصر، عمل مريح ومربح..
ـ سيارة"فان" مرة واحدة!
ـ سيدفع والدك مقدّماً أدخره من راتبه ثم نقّسط القيمة المتبقية.
ـ فكرة لا بأس بها، لكني أخشى أن يتحلل من التزاماته بعد فترة وجيزة، خصوصاً وأن إيصال الطلبة أو الموظفات يعني أن ينام باكراً ويستيقظ باكراً!
ـ علينا أن نجرّب..!
قالتها أم ناصر متفائلة، ردت زهراء في لهجة لم تخل من التشاؤم:
ـ نجرّب! ناصر! لقد أدمن السهر أمام الأفلام المدبلجة الرخيصة.. شاشة التلفاز تبقى مضاءة حتى الصباح.. أخشى أن تكون تجربة فاشلة.
**********
أخذت رشفة من فنجان شاي، قالت وهي تسند ظهرها إلى الجدار:
ـ تصوري من زارنا اليوم!
ـ من!
ـ " أم ميرزا" لقد تحسنت صحتها كثيراً فعادت تزور أحبابها وجيرانها! لو رأيتها لم تعرفيها، وصل وزنها إلى النصف.
ـ ولهذا تحسنت صحتها، لقد كانت مفرطة في السمنة.
ـ سألت عنك كثيراً" وسلّمت عليك"
ـ سلّمها الله وعافاها...
ـ قالتها زهراء وسكتت، أحسّت والدتها بانقطاع دفة الحديث، طرقته مرة أخرى قائلة:
ـ لقد طلبت يدك لابنها" رضا حسين".
أطرقت زهراء قليلاً، قالت بعد هنيهة وهي تحدق بعينين توشيان بالضيق:
ـ أرجوك يا أمي أجلّي هذا الموضوع!
ردت أم ناصر في عناد آثر اللطف:
ـ ولم يا عروسي! ستر الفتاة في بيت زوجها!
ـ لكن ليس أي زوج!
ـ وما به رضا حسين؟ ماذا يعيبه، والدته نسيبتنا، امرأة خلوقة وأبوه بخير!
ردت وهي تضع فنجان شاي لم تهنأ في شربه ولم تستطع إكماله:
ـ عيبه أنه معتمد على خير والده!
ـ إنه يعمل مع والده!
ـ يعمل مع والده! ما هو عمله! أنا لا أراه إلا متخايلاً بسيارته المرسيدس من شارع لآخر.
ـ شاب يا بنيتي، عندما يتزوج يعقل.
ـ وإن لم يعقل .. هل أعيش مع رجل مستهتر!
ارتفع صوت أم ناصر في خشونة معاتبة:
ـ أخشى أنك ترفضينه لأنه ليس لديه شهادة جامعية مثلك! الشهادة لم ولن تكون مقياساً للرجولة!
احتدت زهراء وهي تجيب!:
ـ لو كانت لديه دكتوراه وهو يعيش بهذه الطريقة فلن أقبله.
تأففت أم ناصر، قالت وهي ترمق ابنتها بعينين مستسلمتين:
ـ والى متى هذا الرفض، كل شاب يتقدّم لك تضعين فيه عيباً ، متى تطيبين خاطري وتقولين كلمة الرضا؟.. أظن أني لن أعيش حتى أرى ذلك اليوم.
لانت نظرات زهراء، تكلمت في لهجة لطيفة حانية:
ـ يهمني كثيراً أن أرضيك.. إذا كان من المقدّر أم تجديني عروساً فلن يحول دون القدر شيء.
أرتفع رنين الهاتف، رفعته " أم ناصر" وهي ما تزال تتمتم بكلمات تشي باليأس، هامت في أخذ ورد مع "أم فيصل".. بينما شرعت زهراء في صب فنجان شاي آخر تنعم بشربه في صمت..، وضعت " أم ناصر" سماعة الهاتف، قالت في صوت خفيض متوجهة بكلها إلى زهراء:
ـ يقولون إن فتاة هربت من مدرستكم!
فتحت زهراء عينين مذهولتين لسرعة سريان الخبر، تمتمت:
ـ بهذه السرعة!
ـ يقولون إنها هربت مع عامل هندي لدى أبيها!
ازدادت زهراء ذهولاً، قالت:
ـ يارب..! غير معقول.. أرجوك يا أمي هذا كلام لا يصح قد يكون مجرد إشاعة!
غمزتها بعين مشحونة فضولاً وهي تقول:
ـ هذه الإشاعة وماذا عن الحقيقة!
ـ الحقيقة.. الحقيقة أن الفتاة ربما ذهبت إلي إحدى صديقاتها أو قريباتها.. كل ما في الأمر أنها لم تخبر والدها بذلك!
ـ ربما كل شيء جائز! فالشيء له أساس والزيادة من الناس.
حوقلت زهراء واسترجعت، نهضت غير مستعدة لإطالة الحديث أكثر، فكرت أن تتصل، لكن ليس من الجهاز الذي تجلس والدتها غير بعيدة عنه،لقد أثارت مكالمة " أم فيصل" زوبعة في رأسها، أيعقل ما قيل عن هروب أمل؟1 نهضت قائلة:
ـ سأذهب لإيقاظ ناصر.
دلفت إلى غرفة أخيها ناصر، بعد طرق وفير على الباب كانت غرفته كقطعة من الليل المظلم وسط نهار ذهب أكثر من نصفه، بطانيات الصوف المدلاة على زجاج النوافذ كانت كافية لجعل الغرفة كالقبو، لولا بصيص خافت من الضوء تبعثه شاشة التلفاز المضاءة في الفراغ، ناصر على سريره الأحادي، وقد أطلق أطرافه الأربعة في كل اتجاه، على طاولة صغيرة بمحاذاة السرير، تربع جهاز هاتف بلون أخضر فسفوري جميل، وفي الجدار المقابل حمالة ملابس ازدحمت عليها الثياب بأنواعها..، ألقت زهراء نظرة متفحصة، وسرعان ما اتجهت إلى التلفاز فأطفأته بعد أن ضغطت زر التشغيل الكهربائي، اقتربت من الهاتف، تناولت السماعة لتتصل، كفّ ناصر العريضة تمتدّ فجأة لتسحب السماعة في عنف، جلس كالمرعوب، قال بصوت أجش ما زال بين النوم واليقظة:
ـ من سمح لك أن تستعملي هاتفي؟!
تمتمت مستغربة وهي تضع يدها اليمنى على قلبها:
ـ سبحان الله، كيف استيقظت بهذه السرعة، على كل حال انهض لأرتّب غرفتك.. ولو سمحت باستخدام الهاتف!
ارتفع صوته الأجش في عناد:
ـ لن أنهض ولا أريد منك ترتيب غرفتي، ولن تستخدمي هاتفي! كل أدواتي لا أحب أن يستخدمها أحد!
ـ هذه" موضة" جديدة أم هو وسواس من نوع مستحدث، إنه مجرد اتصال وسوف يبقى هاتفك مكانه!
ـ لديك جهاز في الخارج، استخدميه كيف شئت!
استدارت غير مصدّقة، نزعت البطانيات من على النوافذ، فتحت النوافذ عن آخرها، بينما تلوّى ناصر نصف جالس، وهو يحتضن الهاتف بين يديه، واضعا رأسه بين ركبتيه شارداً من ضوء النهار! تأملّته ثانية، بدت أشد استغراباً من تصرّفه لكنها لم تستطع أن تحدس أي تفسير لحالته!

دانيال غير متصل  

قديم 19-07-02, 11:16 PM   #2

هزيم الرعد
حالة خاصة  







رايق

يخوننى التعبير لوصف احلى مشاركات هذا المنتدى سيدى

لكن أقول لك يامشرفنا العزيز الى الامام ونحن من خلفك قادمون

تحياتى

__________________
وذلك هزيمهم للوردِ يرنو=وفي خديهٍ لون الوردٍ أثرَ

Longing for the roses O' Hazeem

Yet the color is reflected in your cheeks

هزيم الرعد غير متصل  

قديم 16-08-02, 12:55 AM   #3

سحابة صيف
عضو متميز

 
الصورة الرمزية سحابة صيف  







رايق

الروايه كانت جميله


انا قراتها من قبل ويمكن مرتين لانها تتكلم عن واقعنا وتسلم

__________________
سأصبر حتى يمل الصبر من صبري ...سأصبر حتى يحكم الله في أمري

سحابة صيف غير متصل  

قديم 16-08-02, 09:39 PM   #4

دانيال
...(عضو شرف)...

 
الصورة الرمزية دانيال  







رايق

كُنتُ أتمنى من الجميع قراءة هذه الرواية ... والإحتفاظ بنسخةٍ منها للمستقبل ... لما تحويه من دلائل ومعاني سامية ... وحلول للكثير من المشاكل والتي قامت باستعراضها ...

أشكر كُل من مر عليها ... وبالأخص الأخ العزيز هزيم الرعد وأخت سحابة صيف ...

وأجدد الدعوة للبقية بقراءتها ...

والسلام عليكم

دانيال غير متصل  

قديم 08-05-03, 12:13 PM   #5

لجين
اسم الضمير

 
الصورة الرمزية لجين  







رايق

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

رواية جداً رائعه أخي الجليل

__________________
[frame="7 80"]
[glow=FFFF33][glow=FF9900]نسألـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــك م الدعــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء[/glow][/glow]
[/frame]

لجين غير متصل  

قديم 01-06-03, 05:58 AM   #6

شروفه
عضو شرف

 
الصورة الرمزية شروفه  






رايق

حتي أني قرأت الرواية وهي فعلا أكثر من رائعة وغير كذا في كم راوية إلي الثنائي
ونأمل منهما المزيد من العطاء
وشكرا جزيلا للمشرف

شروفه غير متصل  

قديم 07-06-03, 04:10 AM   #7

حسام
عضو واعد

 
الصورة الرمزية حسام  







رايق

وآخر إصدات الثنائي هي مجموعة قصصية بعنوان عابرة سبيل ونأتيكم ببعض التفاصيل عنها عما قريب

حسام غير متصل  

قديم 10-06-03, 12:32 AM   #8

فتى تاروت
عضو مؤسس  







رايق

الحق يقال .. في غاية الروعة والجمال .. لا أروع من أن تكون هذه الرواية على رف مكتبتي الصغيرة ... شكراً جزيلاً

__________________

فتى تاروت غير متصل  

 


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

قوانين وضوابط المنتدى
الانتقال السريع

المواضيع المتشابهه
الموضوع كاتب الموضوع المنتدى مشاركات آخر مشاركة
جدول المجالس الحسينية لموسم عاشوراء 1429هـ الجود منتدى سيد الشهداء عليه السلام 8 09-01-08 04:46 PM

توثيق المعلومة ونسبتها إلى مصدرها أمر ضروري لحفظ حقوق الآخرين
المنتدى يستخدم برنامج الفريق الأمني للحماية
مدونة نضال التقنية نسخ أحتياطي يومي للمنتدى TESTED DAILY فحص يومي ضد الإختراق المنتدى الرسمي لسيارة Cx-9
.:: جميع الحقوق محفوظة 2023 م ::.
جميع تواقيت المنتدى بتوقيت جزيرة تاروت 07:35 PM.


المواضيع المطروحة في المنتدى لا تعبر بالضرورة عن الرأي الرسمي للمنتدى بل تعبر عن رأي كاتبها ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك
 


Powered by: vBulletin Version 3.8.11
Copyright © 2013-2019 www.tarout.info
Jelsoft Enterprises Limited