عرض مشاركة واحدة
قديم 17-06-13, 07:28 AM   #36

أميري حسين
عضو نشيط  






رايق

وقفة عند أسرار الولاية 27


الاستقلال العاطفي

النوع الثاني من الاستقلال الذي تؤمنّه الولاية هو الاستقلال العاطفي. إذ لن تحاول الولاية قطّ أن تكسب قلوب الناس ومشاعرهم عبر الطرق الغريبة. فكل ما مرّ في موضوع «الدعايات» وضيق نطاق استخدام الولاية لأدوات الدعاية، لابدّ أن يؤخذ هنا بعين الاعتبار أيضا. فلا تجذب الولاية أحدا عن طريق أساليب الأفلام السينمائية الغربية. نعم، بالتأكيد إنّ جذابيّة الولاية وجمالها بمكان من الشدّة بحيث بمجرّد أن تعرّض أحد لإشعاعات وجودها يمتلئ حبا وعشقا لها، بيد أن الولاية نفسها لن تبالغ في جذب الناس إلى نفسها.
وهذه كرامة أخرى من كرامات الولاية. إذ يسعى الحكّام ورجال السياسة في جميع أنحاء العالم أن يستخدموا شتى الأساليب والأدوات في سبيل كسب قلوب الناس وجرّها إليهم، وعادة ما يشرعنون استخدام أساليب التضليل والخداع في هذا المسار. أما الولاية فلا تكتفي بعدم التضليل فحسب، بل حتى تخفي كثيرا من الحقائق التي تؤدي إلى ازدياد حبّ الناس لها. فعلى سبيل المثال كان ينفق أئمتنا الأطهار (عليهم السلام) على الأيتام والفقراء، ولكنّهم كانوا يخفون إنفاقهم في ظلام الليل فلم يطّلع أحد على سيرتهم إلا بعد استشهادهم.
مما لا شك فيه، كل واحد منا إذا شاهد وجه الإمام الحجة المنتظر (عج) سيتضاعف عشقه إليه آلاف الأضعاف، ولكن لن يحدث هذا الأمر ببساطة. فإذا أردنا أن نزداد عشقا وحبّا لإمام الزمان (عج) وأهل البيت، ليس لنا بدّ سوى أن نتردد بقلوبنا على بيوتهم ومشاهدهم حتى تتبلور هذه العلاقة ومن ثم تشتدّ وتستفحل. أما الإمام نفسه فلا يقدم على أمر خارق في سبيل إسعار نار الحبّ في القلوب. فليس القرار أن تتمّ تربيتنا كما تربّى الدلافين. نعم، يمكن تربية الدلفين وتدريبه على أداء كثير من الأعمال عن طريق قانون الثواب والعقاب المباشر. فلو كان الأمر كذلك أن بمجرد أن قمنا بعمل صالح تنفتح علينا آفاق من الألطاف الرحمانية أو يتجلّى في قلوبنا نور إمام العصر (عج)، فما الفرق حينئذ بيننا وبين الدلفين؟
يجب أن يعي الناس مفهوم الولاية بأنفسهم، ويعشقونها لما يدركونه من معنى الولاية، لا أن ينجذبوا إليها لما تحظى به من جذابيات ظاهرية. لقد كانت الثقافة السائدة بين أبناء الحجاز في عهد النبي (صلى الله عليه وآله) هو سيادة الشيخ الكبير على المجتمع، إذ كان الناس يحترمون الشيخ احتراما بالغا. وفي تلك الظروف والأجواء الثقافية رفع النبي (صلى الله عليه وآله) يد علي (عليه السلام) ونادى: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه». ومن المعلوم أن الخضوع لولاية رجل شاب في المجتمع الذي تسود فيه ثقافة الشيخوخة ليس بهيّن. وهذا هو أحد مصاديق مراعاة استقلال الناس العاطفي. إن منهج عمل الولاية هو أن لو اهتدى أحد بهداها وفاز بالجنان، ترفع رأسها بين يدي الله وتقول: إنه قد اهتدى إلى الجنة وأصاب الاختيار بنفسه، فلم اضطره إلى الطاعة بسلب استقلاله.
لم تكن الولاية بغنى عن استقلال الناس العاطفي، وهناك أمثلة كثيرة في هذا المجال. فعلى سبيل المثال بعد مضيّ خمس سنين من حكومة أمير المؤمنين (عليه السلام) باتت تأخذ ولايته موقعها واعتبارها الاجتماعيّ بين الناس. فرفع الله عليّا (عليه السلام) في تلك الظروف وأخذه إليه وأصبح الناس أمام امتحان جديد وهو طاعة الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، مع أنه لم يكن يحظى بنفس موقع أمير المؤمنين (عليه السلام) الاجتماعي. ولكن ليس القرار هو أن يخضع الناس للولاية لما تحظاه من موقع اجتماعي. لقد تعرض الناس حينها لامتحان صعب شديد وقد أتتكم أنباؤهم.
فاقضوا أنتم واحكموا؛ هل قد خطر هذا القدر من احترام الناس إلى قلب أحد من مفكري الغرب؟ هل تراعي واحدة من البلدان الغربية حرية شعبها واستقلاله إلى هذه الدرجة؟ هذه هي الجوانب الدولية من بحث الولاية التي إذا عرضت على الناس وأدركوها سوف يعشق ويتلهف الجميع لهذا المفهوم النيّر.

3ـ الاستقلال العملي

النوع الآخر من الاستقلال الذي تؤمّنه الولاية هو الاستقلال العملي. الاستقلال العملي بمعنى أن لا يخضع أحد لسلطة ما بسبب فقره وفاقته. من أهداف الولاية هو أن لا يخضع أحد لسلطة غيره من الناس ما يؤدي إلى سلب استقلاله بسبب عدم تأمين احتياجاته الأولى. فلعل بعض الناس قد خرجوا بهذه النتيجة عقلا وهي أن لا ينبغي الخضوع لسلطة أحد، كما لا يحملون أية علاقة قلبية تجاه صاحب تلك السلطة التي خضعوا لها، بيد أنهم في مقام العمل خضعوا لسلطته بعد ما وجدوه قادرا على سدّ بعض احتياجاتهم.
وهذا يمثل جانبا آخرا من روعة الولاية. تسعى الولاية لإثراء الناس واكتفائهم الذاتي. إنها تسدّ حوائج الإنسان الأوليّة، لئلا يخضع أحد لسلطة غيره بغية تأمين احتياجاته. فإنها حتى وإن سدّت حاجة الإنسان لا تمنّ عليه وتقول له: «أنا الذي سددت حاجتك فاخضع لولايتي عليك.» كلا، إنها تقول: «لقد سددت حاجاتك في سبيل أن تحصل على الاستقلال العملي وتختار ولاية من شئت. فاذهب وتأمّل واختر من شئت وليا عليك».
وهذا هو سبب توصيات سماحة السيّد الوليّ المؤكدة على المسؤولين بالمحرومين والمستضعفين. إن ما يصبو إليه سماحة السيد هو أن لا يفقد أحد دينه بسبب فقره. لماذا كان يسعى أمير المؤمنين (عليه السلام) لاستئصال الحرمان؟ لماذا لايزال يعطي الإمام الرضا (عليه السلام) حوائجنا؟ لماذا لايزال أئمتنا (عليه السلام) يقضون حوائجنا المادّية والجسديّة؟ لأنهم يرون من تكليفهم هو أن يمنحونا الاستقلال العملي. وأهمية الاستقلال العملي هي أنه يزيل أرضية الخضوع والركون للظلم.
ولهذا السبب سوف تظهر بركات السماء والأرض في زمن ظهور الإمام الحجة (عج).[1] وفي الحقيقة سوف تنهض السماء والأرض لنصرة الإمام المنتظر (عج). لأنه بصدد إقامة حكومة عالمية يتبعه فيها جميع أهل العالم. فمن أجل تحقيق هذا الأمر لابدّ أن يكون الناس في فسحة ورفاه مادّي، كي لا يضطروا إلى الخضوع لسلطة أحد سواه في سبيل سد احتياجاتهم.
حصيلة الكلام: على رغم تهمة «عدم مراعاة استقلال الناس» التي كانت ولا تزال تستهدف الولاية، إن الولاية هي التي تؤمّن ثلاثة أنواع من الاستقلال؛ الاستقلال العقلي والاستقلال العاطفي والاستقلال العملي. وإنّ تأمين هذه الأنواع الثلاث من الاستقلال بحاجة إلى قوّة مطلقة. فمن هذا المنطلق قد منح الله هذه القوّة المطلقة المركزية للولاية ليتسنّى لها التفوّق على جميع القوى الأخرى في مسار توفير الاستقلال للناس.

يتبع إن شاء الله ...

[1]. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): «يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي وَ يَعْمَلُ بِسُنَّتِي وَ يُنْزِلُ اللَّهُ لَهُ الْبَرَكَةَ مِنَ السَّمَاءِ وَ تُخْرِجُ لَهُ الْأَرْضُ بَرَكَتَهَا وَ تَمْلَأُ بِهِ الْأَرْضُ عَدْلًا كَمَا مُلِئَتْ ظُلْماً وَ جَوْراً» [کشف الغمة، ج2، ص472].


أميري حسين غير متصل